ﺗﻤﻬﻴﺪ ﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ

يكون في تيقظ عواطف الخري في البشر وانسياقها إلى دعوة السلم العام والنزاهة الخالصة
ً والإنصاف والتسامح، مدعاة للتعاون بني الناس جميع ً ا على خدمة العلم باعتباره نورا لا
ينبغي أن يُ ِخالط صفاءَه كدر.
وليس يُ َّ وئسنا من ذلك أن تهب في بعض البلاد نزعات كانت ركدت ريحها، ليس من
شأنها أن تخلِّص نفوس النَّاس من عوامل العصبية والهوى، مثل نظرية تفوق السلالة
النوردية الشاملة لشعوب أوروبا الشمالية، التي تحيا في أملانيا لهذا العهد، ومثل فكرة
تفوق البيض على السود املنتشرة في أمريكا الشمالية، وفكرة تفوق الجنس الأبيض على
الجنس الهندي التي دعت إلى تسمية املتولِّدين بني إنجليز وهنديني تسمية خاصة في بلاد
الهند وفي بلاد أفريقيا الجنوبية، بل نحن نرجو أن يغلب العلم والحق هذه النزوات التي
ِّ لا يسندها علم ولا حق، ويقوي رجاءنا أن نجد في أمريكا نفسها أصواتًا تقرر باسم العلم
أحيانًا ما نقرره نحن الآن.
ُ وفي مقال م َّعرب عن مجلة «السينتفيك62 أمريكان» نُشر في مجلة «املقتطف» (يونيو
سنة ١٩٣٤) بعنوان: «بماذا تتفوق السلالات؟»:
«وليس في الدعوى القائمة على تفوق السلالة النوردية شيء جديد، بل هي ناحية
َ جديدة من مذهب سرَ َّ ى في خلال القرن التاسع عشر، مؤد َّ اه أن بعض طوائف من الناس
ِ سود الطوائف الأخرى، ومن قبل َّ ذلك أحس املؤلف الإنجليزي
َّ لها حق منزل في أن تَ
ِ ب من قبَ ِ ل نفسه بل ومن قبَل
دانيال63 ده فوا مؤلف رواية «روبنسن كروزو» بأنه مطالَ
َّ الحق والعدل بأن يهب ُّ إلى السخرية من مثل هذا الرأي الذي يرمي إلى تبوء سلالة معينة
املكانة العليا في تاريخ الإنسانية، كأن هذه املكانة خاصة بها من طريق الوضع الإلهي،
ولكن العواطف الإنسانية قوية لتأصلها في الطبيعة البشرية فتطغى على صوت العقل
ونوازع املنطق؛ فتبدو نظرية التفوق العنصري أو تفوق سلالة خاصة مرة بعد أخرى في
َّ خلال عصور التاريخ، مع أن العقل والعلم لا يؤيدان الأركان الواهية التي تقوم عليها.
ُ ونحن الآن نشهد انبثاق هذه الفكرة أو هذه النزعة من جديد، بعدما كنَّا قد ظننَّا أنه
ُّ ضي عليها في أواخر القرن التاسع عشر، ونظرية التفوق النوردي هي فرع من نظرية
قد قُ
ُّ التفوق الآري، أي تفوق الشعوب الآرية التي كان زعيمها ذلك الأرستقراطي الفرنسي
الكونت جوزيف آرثر جوبينو64 َّ املتوفى َّ سنة ،١٨٨٢ فده جوبينو هذا ذهب إلى أن الشعوب
الآرية وحدها دون غريها هي التي خلَّفت كل ما له قيمة في الحضارة وحافظت عليه،
َّ وفكرة وجود سلالة آرية نشأت من تشابه اللغات الهندية الأوروبية مما حدا إلى القول
ُّ ها جميعها ترتد إلى أصل واحد هي اللغة الآرية.
بأنَّ
28
مقالات املؤلفني الغربيني
َّ والقول بتفرع اللغات الهندية الأوروبية من اللغة الآرية قول له سند صحيح، أما ما
َّ ذهب إليه جوبينو من أن َّ وجود لغة آرية أصلية تفرعت منها اللغات الهندية الأوروبية
ً يقتضي كذلك وجود سلالة آرية، فقد كان وهما من الأوهام.
ُسندت إليها جميع الفضائل،
ُ فلما خ ِّ لقت هذه السلالة املوهومة على الطريق املتقدم أ
َّ وقيل إنها منبع جميع الحضارات العاملية من قديم الزمان إلى حديثه، وقيل إن النورديني
َّ هم سلالة الآريني الذين توط ِ نوا شمال أوروبا في القَدم، ومنهم الشعوب التيوتونية والأنجلو
َّ سكسونية، ومع ذلك لم يستطع أحد من العلماء أن يأتي بسند علمي واحد على أن السلالة
الآرية كانت موجودة حقيقة؛ إذ ليس ثمة علاقة حتمية بني اللغة والسلالة؛ فالآرية لغة،
واستعمالها للدلالة على سلالة معينة كما يستعملها الأملان اليوم ليس له مسوغ علمي
واحد.
َّما الشعوب النوردية؛ فلا يُعلَم أصلهم على وجه التحقيق، بل ليس من املؤكد أنَّهم
َ
أ
ينتمون إلى سلالة صريحة النسب.»
وقد قرأنا في مجلة «الشهر» الفرنسية جملة تتعلق بكتاب ظهر حديثًا اسمه
«الآريون»، فيها إعراب عن منزع العلماء الفرنسيني املعاصرين في مسألة الآرية، وهذا
تعريب تلك الجملة:
ُّ كتاب مسيو جورج بواسون66 الذي ظهر غري بعيد يعرض ملسألة جعلتْها
«الآريون65:
الحوادث الحاضرة في مقدمة املسائل، وهي أثر الجنس في تكوين الشعوب الحديثة، وإذا
ً كان العلم الأملاني قد أوغل في الدراسات الآرية إيغالا ً بعيد ً ا، فإنه انتحى نحوا يجعل صحة
َّ نتائجه موضع إنكار من علماء البلاد الأخرى، أما العلم الفرنسي فلم يُ ِعط هذه الأبحاث
ْ من عنايته إلا بقد ُ ر؛ لذلك لم يوجد إلى الآن مصنَّف يتناول هذا املوضوع من كل جوانبه
مبيِّنًا الطبيعة الحقة للطائفة املوسومة بالآرية، وأصولها الجنسية وتطوراتها في ثنايا
ِ الأجيال، وهذا ما عالجه مسيو جورج بواسون العال َ م بما قبل ُ التاريخ، امل ِ حيط بآخر ما
َّدون العلماء الفرنسيون والأجانب.
ً كان الاهتمام بدرس مسألة الآرية في فرنسا متروكا إلى الآن لعلماء اللغات وحدهم،
َّلا َّ ننسى أن دعوى
َ
ُّ ويرى مسيو بواس َّ ون أن َّ ذلك خطأ، وأن ُ النهوض بهذه الأبحاث يستلزم أ
ً الآرية هي أولا من مسائل العلم الباحث عن أصول الشعوب، وفوق ذلك فإن الوصول إلى
ُ الأصول الحقيقية لتاريخ الشعوب واملدنيات يقتضي الاستعانة بما انتهى إليه املشتغلون
ُّ بدرس ما قبل التاريخ، فمسيو بواس ً ون يتخذ نمطا في البحث يعتمد على علم اللغات، وعلم
29
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
ً أصول الشعوب، وعلم ما قبل التاريخ مع ُّ ا، وكتابه هو تاريخ حقيقي للتطور الأوروبي منذ
َّ نشأة الأجناس الحاضرة إلى يومنا هذا، على طريقة التقسيم املسماة بتركيب القياس67.
وهذا التاريخ يُ ِّبني َّ كيف تكونت الأُمم والشعوب في عهود التاريخ، وما هي العناصر
ْ ها، وأين نشأت منابتها، وكيف تنقَّ لت في البلاد، وما مدنياتها املتعاقبة، وما
َّ التي كونتْ
ُّ أثرها في التطور العام للإنسانية.
َّ ونجد فيه أن كل الأمم التي هي من الأسرة الآرية صيغت من خليط من عناصر
لها من النقاء حظا أكبر من حظ غريها، على
َّ الأجناس الأولى، وما يكون لأمة أن تعتز بأن ٍّ
َّ قاء ليس مما يُستطاع تحديده.
َّ أن هذا النَّ
َّ ثم إن ٌ املدنية الآرية هي أثر ُمشترك لجميع العناصر الجنسية التي شملتْها هذه
َّ املدنية؛ إذ إن ِ كل عنصر ساهم فيها بشمائله ومعارفه على ن َس ِ ب متعادلة.»68
هوامش
.Émile Bréhier (1)
.Histoire ds la Philosophie par Émile Bréhier, Tome I, p. 20 (2)
.١٨١٩ سنة املتوفى Guillaume Théophile Tennemann (3)
Manuel de l’histoir de la philosophi par Tennemanne. Traduit de (4)
،١٨١٢ سنة بالأملانية مرة لأول شرُن .l’allemand par V. Cousin, seconde édit 1839
ونقله إلى الفرنسية سنة ١٨٢٩ الفيلسوف الفرنسي كوزان املتوفى سنة .١٨٤٧
.Jean Jacques Brücker (5)
Page XIV preace Tome I Manuel de l’histoir de la philosophi par (6)
.Tennemanne. Traduit de l’allemand par V. Cousin, 2 édition, Paris 3819
.Tome, I, Page 356, 357 (7)
(8 ُ ) يوحنا امللقب فيلوبنوس Philopon Jean السكندري تُوفي نحو سنة ٦٠٨م
ويُ ً عرف أيضا بيحيى النحوي.
.le Mysticisme (9)
(10 ِ ) لم أجْد ً ذكر َّ ا فيما بني يدي من مراجع البحث لأبي سعيد أبي الخري، لكن
ْ يوجد أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز نسبة إلى خر ِ ز الجلود من القَرب ونحوها، من
ُّ أهل بغداد، وقد ذكره صاحب كتاب «التعرف ملذهب أهل التصوف فيمن نشر علوم
30
مقالات املؤلفني الغربيني
الإشارة كتبًا ورسائل»، قال: «ويُ ُّ قال له لسان التصوف»، وقال السيد مصطفى العروسي
في حاشيته على شرح الرسالة القشريية: «هو شيخ الطائفة، غري أنَّ ِّ ه توفي على الأرجح سنة
ُّ ٢٨٦ه٨٩٩/م، وذلك يمنع أن يكون هو املراد بواضع علم التصوف قبل القرن الثاني أو
في ثناياه.»
َّ على أن ُ الأستاذ ماسينيون ذكر في كتابه «مجموعة نصوص لم تنشر متعلِّقة بتاريخ
ُّ التصو ُ ف في بلاد الإسلام» ص:٨٧ «أبا سعيد بن أبي خري امل َّ توفى سنة ٤٤٠ه١٤٠٨/م،
وذكر أنَّه خراساني، وأشار إلى أنه كان يتحلَّل من القيود الدينية، وكان ذا صلة بالفيلسوف
ابن سينا»، وليس أبو سعيد بن أبي الخري هذا هو مقصود تنمان بالضرورة.
ُ وفي كتاب «محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر» للشيخ علاء الدين علي دده السكتواري
َّ البوسنوي املتوفى سنة ٩٩٨ه١٥٩٠/–١٥٩٨م، ص:٧٠
َّ «أو َ ل م َّ ن تكلم بمصر في ترتيب الأحوال ومقامات الأولياء — قد ِ َّ س الله سرهم —
َّ ذو النون املصري املتوفى َّ سنة ٢٤٥ه٨٥٩/م — قد ِ َّ س الله سره ونفعنا بعلومه آمني (أوائل
َ السيوطي). أول من تكلم ببغداد في مذهب الصوفية من صفاء الفكر والشوق والذوق
ْرب والأُنس واملحبة واملعرفة والفناء والبقاء، وغريها من املقامات واملنازل أبو حمزة
والقُ
ِّطي، ومات سنة تسع وثمانني
َّ محمد بن إبراهيم البغدادي الصوفي من أقران السرِ ِّي َّ السقَ
َ ومائتني (أوائل السيوطي). أول م ُ ن سِّمي بالصوفي وتكلم في علم القلوب أبو هاشم
الصوفي (املتوفى سنة ١٠٥ه٧٣٤-٧٣٣/م، كما في «أبجد العلوم»، ج،١ ص،٣٨٦ و«كشف
َ ُ ع الجبال بالإبر أيسر
لْ
الظنون»، ج،١ ص٢٩٠)، كوفي املولد شامي املقام. قال أبو هاشم: لَقَ
ِ من إخراج الكْبر ُ من القلوب. وقال الثوري: لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء
س سره — من طبقات املشايخ (أوائل
ُّ
ِّد
ُ وما كنت َ عرفت من الصوفي لولا أن أبا هاشم — قُ
ا
َ السيوطي). أول م ً ن تكلم بالعراق في بلدة مرو في الأحوال الصوفية وكان فقيه ُ ا م ِّحدثً
ً إمام ُّ ا أبو العباس املروزي شيخ التصوف في زمانه — مات سنة ثلاثمائة ه٩١٣-٩١٢/م
َّ (أوائل السيوطي) ... أو َل من تكلم في علم الفناء والبقاء أبو سعيد الخراز البغدادي شيخ
الفقراء الصوفية تلميذ ذي النون املصري رحمهم الله (أوائل السيوطي) ... أول حال
رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلوة، حيث تبتَّل إلى جبل حراء، حيث كان يخلو بربه ويتعبَّد، حتى قالت
ً العرب إن محمدا عشق ربه؛ قاله الغزالي.
َ أول من آثر العزلة والوحدة من الصحابة الكرام — رضي الله عنهم — أبو ذر
الغفاري رضي الله عنه، كما جاء في الخبر الصحيح في حقه: «يمشي في الأرض بزهد
31
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
عيسى بن مريم عليهما السلام»، وهو سيد أهل الخلوة من الصوفية. وفي الحديث املشهور
َّدام العلماء يوم القيامة؛ ذكره السيوطي.»
أنه يأتي قُ
َ ولعل هذه النصوص تجمع جملة ما قيل فيمن يصح أن يُ َنس ُّ ب التصوف إليهم.
.Tome I, Pages 358-359 (11)
(12) املثاليون ldéalistes.
.Tome I, Pages 363-364 (13)
(14 َّ ) قال طاش كبرى زاده املتوفى سنة ٩٦٢ه١٥٥٥-١٥٥٤/م في كتاب «مفتاح
السعادة»:
َّ «ثم اعلم أن أفلاطون الحكيم كان يُعلِّ ً م بعضا من تلامذته بطريق التصفية وإعمال
ُ الفكر الدائم في جناب القدس، وسُّم ً وا بالإشراقيني، وبعضا منهم بطريق البحث والنظر
ُفسُّم َّ وا املش ُّ ائني، لترددهم على مجلسه، أو لأخذهم الحكمة وقت مشيه إلى تعليم أولاد
ً السلطان، أو لتعليمهم وقت مشيه في بستان كان له، وأما في غري هذا الوقت فكان منقطعا
َّ عن الناس، ورئيس طائفة املش َّ ائني هو أرسطو، وهو الذي دون الحكمة البحثية (ج،١