مضيف القصب: رمزية وتاريخ في جنوب العراق

مضيف القصب: رمزية وتاريخ في جنوب العراق

في عمق الجنوب العراقي وبعيدا عن المدن الكبيرة وزحام السكان، وتحديدا في الأهوار، كثيرا ما يشاهد الزائر لتلك المناطق بناء كبيرا مصنوعا من قصب السكر فقط يسمى (المضيف) والمضيف هو بناء مصنوع بأكمله من قصب السكر ويمتد تاريخه لآلاف السنين. وقد اعتادت القبائل العراقية، وبالأخص في الجنوب العراقي أن تبني لها مضيفا واحدا ليكون مكانا ثابتا لاجتماع أبناء القبيلة، وحل القضايا والمشاكل والتداول في ما بينهم.

المضيف في الحضارة العراقية القديمة

قبل الخوض في موضوع (المضيف) كان لا بد من لقاء أحد المختصين في التاريخ ليطلعنا على كيفية ظهور المضيف لأول مرة في التاريخ العراقي منذ آلاف السنين. يقول الأكاديمي العراقي علي قاسم جابر إن «المضيف هو مكان يستخدم للضيافة واجتماع أبناء العشيرة لمناقشة مختلف القضايا التي تهم العشيرة، وكذلك لإقامة مراسيم العزاء الحسيني. والمضيف هو من الأبنية التراثية العراقية الجميلة المدورة الموغلة في القدم، حيث تمتد جذوره إلى الحضارة السومرية، والدليل التاريخي على ذلك هو الأختام الأسطوانية التي تعود إلى عصر الوركاء، حيث يظهر فيها بناء من القصب يشبه المضيف تماما».

قواعد صارمة

بناء المضيف لا يتم هكذا بصورة عابرة وسريعة، بل يخضع لمجموعة قواعد صارمة. يوضح جابر أن «كل ما يتعلق بالمضيف بدءا من البناء أو الجلوس فيه يخضع للقواعد الصارمة، التي لا مكان للخطأ فيها. ففي مجال البناء يجب أن يكون بناء المضيف في اتجاه القبلة، أي يكون امتداده من الشمال إلى الجنوب، وبناء المضيف ليس متاحا للجميع، بل يقتصر على شيوخ القبائل والوجهاء والسادة أحفاد الرسول.

طريقة البناء

أما عن طريقة بناء المضيف يوضح جابر قائلا «فيما يخص البناء نبدأ من عدد الركائز والدعامات الأساسية في المضيف، وتسمى باللهجة الجنوبية العراقية (الشبات والحنيات) وتكون من القصب عادة، يبنى عليها المضيف ويجب أن تكون أعدادها فردية فقط، فتبدأ مثلا من سبعة ثم تسعة أو أحد عشر أو ثلاثة عشر. ويختلف هذا العدد بين مضيف وآخر، لكن في المضائف القديمة كان العدد هو تسعة. بعد تثبت (الشبات) في الأرض توضع عليها (الهطر) وهي جمع لكلمة (الهطار) باللهجة الجنوبية وهو أيضا مصنوع من القصب المشدود بالحبال، سواء من حبال الليف أو حبال الكبار، وتثبت على الشبات والحنيات كي تكون واسطة توضع عليها (البواري) والبواري مصنوعة من القصب لتكون سقفا للمضيف، بعد ذلك يوضع من الخارج في أسفل المضيف ما يسمى (بالمشبج) وهو عبارة عن أشكال هندسية جميلة تسمح للجالس داخل المضيف بالنظر إلى الخارج، وكذلك تسمح بدخول الهواء في فصل الربيع والصيف، أما في الشتاء فيوضع نبات البردي على المشبج حتى يمنع دخول الهواء البارد إلى الداخل، وفي الثلث الأول من المضيف يوضع (الأوجاغ) في اللهجة العراقية الأصيلة، والأوجاغ هو موقد النار الذي توضع عليه أدوات إعداد القهوة، وتتكون من مجموعة من الدلال أكبرها يسمى ألكمكم وأصغرها يسمى السكاية، بالإضافة إلى المقلاة والهاون، وفي المجمل فإن بناء المضيف يستغرق عشرة أيام تصاحبها أهازيج وقصائد شعبية لشد أزر العاملين.

رمزية الهاون في المضيف

ويضيف «للهاون رمزية كبيرة في المضائف العراقية بصورة خاصة، ولدى العشائر العراقية بصورة عامة، حيث إن الهاون يستخدم في الدرجة الأولى لطحن حبوب القهوة، ويستخدم كدلالة على الاجتماع، أي أن على أبناء القبيلة عندما يسمعون صوت دق الهاون الحضور فورا إلى المضيف للاجتماع مع شيخ العشيرة للتشاور في أمور تخص العشيرة، وما زالت تلك العادة متبعة لدى القبائل العراقية الجنوبية والشمالية حتى اللحظة».

قواعد الجلوس في المضيف

يخضع الدخول والجلوس في المضيف إلى قواعد صارمة ما زالت العشائر العراقية محافظة عليها، يقول جابر: «الدخول والجلوس في المضيف له مجموعة قواعد أهمها هي المصافحة من اليمين ثم يجلس الضيف بشكل وقور، وبذلك يحافظ على هيبة واحترام المكان، لأن المضيف له هيبة واحترام في نفوس أبناء العشائر العراقية، أيضا يوضع القرآن الكريم ملفوفا في قطعة من قماش خضراء اللون في مكان مميز من المضيف وعندما يرفع للتلاوة يقوم جميع الجالسين احتراما لكتاب الله».

السياحة في الأهوار والجفاف

قبل سنوات وضعت منظمة اليونسكو الأهوار العراقية ضمن لائحة التراث العالمي لاحتوائها على عدة أشكال من الحياة الطبيعية، إلا أن مشكلة الجفاف والتصحر التي لاحقت الأهوار في السنوات الأخيرة‌، أي سنوات 2020 و2021 والسنة الحالية 2022 دفعت الكثير من سكان الأهوار إلى الهجرة نحو المدن، بحثا عن الماء ما يهدد مكانة الأهوار في السياحية العراقية والعالمية‌، بعد أن كانت قبلة‌ سياحية مميزة، وكانت مضايف القصب مكانا مميزا لإقامة السياح من مختلف جنسياتهم ويعكس أبهى صورة لكرم القبائل العراقية الجنوبية خاصة، والعراقيين عامة.