بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
حول
مرحبا بكم فى منتدى الموقع العام لقبيلة البدير في العراق للشيخ شوقي جبار البديري
قبيلة البدير من القبائل الزبيديه
علم الإجتماع الديني المفاهيم الأساسية - النشأة والتطور
صفحة 1 من اصل 1
علم الإجتماع الديني المفاهيم الأساسية - النشأة والتطور
علم الإجتماع الديني
المفاهيم الأساسية - النشأة والتطور
تأليف
الأستاذ المساعد الدكتور المدرس المساعد سلوان فوزي العبيدي أنس عباس عزوان
2017م
المقدمة
علم الإجتماع الديني من الفروع المهمة لعلم الإجتماع العام , لما يتناوله من مواضيع لفهم الظاهرة الدينية الموجودة في كل الثقافات الإنسانية , من خلال دراسة المفهوم الأساسي والجوهري لعلم الإجتماع الديني ألا وهو مفهوم الدين , فدراسة الظاهرة الدينية , ونشأتها وأصولها , وتطورها , واتجاهاتها الفكرية المختلفة , والنظريات الفلسفية والإجتماعية والنفسية المفسرة للدين , هي من أولويات علم الإجتماع الديني , اضافة الى دراسة العلاقة المتبادلة بين الدين وثقافة المجتمع , والمؤسسات والجماعات الدينية , وأشكالها , والتغيرات الإجتماعية والثقافية التي تحدثها الظاهرة الدينية , والعوامل المختلفة المؤثرة والمتأثرة بالدين .
ان الظاهرة الدينية لا تختلف في مكونها عن الظاهرة الإجتماعية , فهي عامة غير خاصة تشمل جميع أفراد المجتمع , وتجبرهم بسطوتها المشابه لسطوة الثقافة على اتباعها والمثول لتعاليمها , كما انها مستقلة عن إرادة الأفراد , قوية كعادة التقاليد والأعراف , وقد تكون الظاهرة الدينية عاطفية فردية ونفسية , إلا ان نموها وكينونتها لا تتم إلا داخل المجتمع , إذ إن انتشارها يتم عن طريق التفاعل والإحتكاك بين الأفراد , ويجعل لها كياناً خاصاً مستقلاً عن إرادة الأفراد , كما ويحتل الدين مكان الصدارة من تأملات الإنسان , وتفكيره وعنايته , ذلك لكونه أقوى وأشد العواطف الإنسانية تأثيراً في نفوس الأفراد والجماعات .
لقد أهتم المفكرين والفلاسفة بتفسير الظاهرة الدينية , كلاً حسب وجهة نظره واتجاهاته النظرية والفلسفية والإسطورية , كما اتجه عدد من رجال وعلماء الدين , بمختلف مستوياتهم واستعداداتهم , لتفسير الدين من الناحية العقائدية المذهبية , ومن الناحية التعبدية العملية , لقد احتل الدين والنظم الدينية مكان الصدارة عند أغلبية العلماء والمختصين في الدراسات الإجتماعية من منطلق ان الدين ونظمه من أهم النظم الإجتماعية .
لقد تطوّر اهتمام الناس بالدين من العقيدة العمياء المغيبة الى العقيدة المتعقلة الواعية , ومن ثم الى ظاهرة الغوص والبحث في طبيعة الدين , ثم تطور بتطور العلوم الإنسانية , حتى ظهر مقترناً ومتلازماً مع العلوم الإجتماعية , وفي احد أهم فروعه إلا وهو علم الإجتماع الديني الذي يركز جزءاً من اهتمامه بدراسة الدين والمجتمعات الدينية , وتأريخ وأشكال الديانات المختلفة وتطوّرها .
ان مفهوم الدين الذي تتناوله موضوعات علم الإجتماع الديني من وجهة نظري , لا يقتصر على كونه مجموعة من العقائد والمعتقدات والتعاليم الروحية فقط , ولا بكونه يرسم صورةً لنظام اجتماعي داخل البناء الإجتماعي للمجتمع يؤثر ويتأثر ببقية الأنظمة الإجتماعية , بل ان الدين هو اللاعب الأساسي , وصاحب الدور الرئيسي في الصراعات السياسية والإقتصادية والفكرية , والتي ستساهم في رسم خارطة العالم المستقبلية , وليس كما يذهب البعض الى ان دور الدين سينحصر ويضمحل مع التقدم الذي سيصاحب المجتمعات البشرية.
وهذا ما ستتضمنه محتويات هذا الكتاب ( علم الإجتماع الديني - المفاهيم الأساسية - النشأة والتطور ) الذي يتكون من أربعة فصول رئيسية حاول المؤلف خلالها توفير عرض تفصيلي لأهم المواضيع التي يهتم بها علم الإجتماع الديني .
فقد تطرقت في الفصل الأول المعنون بعلم الإجتماع الديني الى خمسة محاور رئيسية حاولت قدر المستطاع تغطية مضامينها , فالمحور الأول كان حول تحديد مفهوم علم الإجتماع الثاني , والمحور الثاني كان حول نشأة علم الإجتماع الديني وتطوره , والمحور الثالث حول أهمية علم الإجتماع الديني , والمحور الرابع حول كان حول أهداف علم الإجتماع الديني , والمحور الخامس حول علاقة علم الإجتماع الديني بالعلوم الأخرى .
أما الفصل الثاني الدين , فقد أحتوى على مبحثان الأول كان حول تحديد مفهوم الدين و بعض المصطلحات المرتبطة به , وبعض وجهات نظر الفلاسفة والعلماء حول الدين , أما المبحث الثاني , فقد تناول موضوع وظائف الدين من وجهات نظر ورؤى مختلفة .
في حين تناولت في الفصل الثالث نشأة الدين وتطوره من خلال مبحثان , كان المبحث الأول حول أهم النظريات المفسرة للظاهرة الدينية , وتناول المبحث الثاني أهم الإتجاهات النظرية في دراسة الدين .
وأحتوى الفصل الرابع والأخير الدين والثقافة , على ست مباحث , المبحث الأول تناول مكونات الدين , والمبحث الثاني تناول مراحل تطور الفكر الديني , والمبحث الثالث تناول موضوع تباين الأديان وتعددها والعوامل المؤدية لتنوعها , والمبحث الرابع كان حول أشكال الأديان الإنسانية , والمبحث الخامس تناول موضوع التطرف الديني وأسبابه ومجالاته ومظاهره , وكيفية مواجهته , أما المبحث السادس فقد كان حول العقلانية والأخلاقية في التدين من خلال عرض أهم سمات التدين العقلانية للإنسان .
لقد حاولت في هذا الكتاب (علم الإجتماع الديني – المفاهيم الأساسية – النشأة والتطور ) , من خلال جهدي المتواضع الإحاطة بموضوع علم الإجتماع الديني واتجاهاته ونظرياته قدر المستطاع , والخروج بأفكار سلسة ومفيدة يستفيد منها القارئ وينهل منها طالب العلم , وليضاف كمصدر آخر من مصادر علم الإجتماع الديني القليلة لردف المكتبات بهذا الفرع المهم من فروع علم الإجتماع العام , ومن الله التوفيق .
المؤلف
الأستاذ المساعد الدكتور
سلوان فوزي العبيدي
الفصل الأول / علم الإجتماع الديني Sociology of Religion
أولاً / ماهية علم الإجتماع الديني :
يُعد علم الإجتماع الديني أحد فروع علم الإجتماع العام , وقد جرت العادة على تقسيم علم الإجتماع الى ميدانين رئيسيين هما علم الإجتماع العام وعلوم الإجتماع الخاصة , فبينما يقدم الأول دراسة للأشكال الأساسية للمجتمع وقواه الأساسية في صورة خالصة , نجد علوم الإجتماع الخاصة تتناول الميادين السوسيولوجية المختلفة , فهناك علم الإجتماع الفن , وعلم الإجتماع القانوني , علم الإجتماع السياسي , وعلم الإجتماع الديني , ومن هذا المنطلق يُعتبر علم الإجتماع الديني أحد أهم علوم الإجتماع الخاصة , إلا ان علم الإجتماع الديني ينتمي من ناحية أخرى الى علم الأديان المقارن الذي يتناول إمبريقياً تأريخ الأديان بالمقارنة والتحليل , وعليه فإننا يمكن ان نعرف علم الإجتماع الديني على انه العلم الذي يهتم بدراسة الظواهر الإجتماعية في ميدان الدين والعلاقات الإجتماعية للدين في الداخل والخارج , فهو يتناول دراسة الكيانات والعمليات الإجتماعية التي تنتمي لميدان الظواهر الدينية , ويهدف الى تحليل أبنيتها والقوانين التي تخضع لها . ( )
ان الدارسين الإجتماعيين للدين لا يقومون بالبحث في الظواهر الدينية لذاتها , وانما يتناولونها من زاوية خاصة بإعتبارها نُظماً اجتماعية قائمة لها وظائفها الإجتماعية , ولها أثرها في النظم الإجتماعية الأخرى القائمة بالمجتمع , ومن هذه الناحية , فعلم الإجتماع الديني وهي التسمية التي تسمت بها هذه الدراسات وثيقة الصلة بالدراسات الأنثروبولوجيا و الأثنوغرافيا التي درست الديانات البدائية الأوليةُ التي بُنيت بنُظم الجماعات البدائية والمتأخرة , وفي مقدمتها النُظم الدينية التي تُعد حجر الزاوية للتنظيم البدائي الأولي للجماعات الإنسانية . ( )
فعلم الاجتماع الديني هو العلم الذي يدرس المؤسسات الدينية دراسة اجتماعية مثل اماكن العبادة , الطقوس و الشعائر , كذلك العمليات الإجتماعية داخل المؤسسات الدينية , كذلك يعرف بأنه العلاقة المتفاعلة بين الدين والمجتمع , ويعرف ايضاً بأنه العلم الذي يدرس الجذور الإجتماعية للظواهر الدينية , وأثر هذه الظواهر في المجتمع والبناء الإجتماعي , كما عُرف بأنه العلم الذي يدرس المؤسسة الدينية دراسة اجتماعية , والمؤسسة الدينية كما عرفها (هولت) بأنها المنظمة الرسمية ذات الطابع والصبغة الدائمة والمستمرة مثل (وزارة الأوقاف ووزارة الشؤون الدينية و المساجد) , ومن هذا المنطلق يظهر بأن علم الإجتماع الديني يختص بدراسة الظواهر الإجتماعية التي تبرز في المؤسسات والنظم الدينية والتي حددها البروفيسور (جورج زيمل) في كتابه (علم الإجتماع الشكلي) كما يأتي :
1- الرئاسة و المرؤوسية في المؤسسات الدينية .
2- المركزية واللامركزية في المؤسسة الدينية .
3- الموضوعية في المؤسسات الدينية .
4- الصراع والوفاق في المؤسسات الدينية .
5- المنافسة والتعاون داخل المؤسسات الدينية .
ان الدراسة الإجتماعية للمؤسسة الدينية ينطوي على تحليل الأمور التالية :
أ- دراسة العلاقات الإجتماعية داخل المؤسسة الدينية .
ب- نظام السلطة في المؤسسة الدينية .
ت- نظام المنزلة في المؤسسة الدينية .
ث- تحليل العمليات الإجتماعية داخل المؤسسة الدينية . ( )
ثانياً / نشأة علم الإجتماع الديني وتطوره :
ان علم الإجتماع الديني هو وليد العلاقة الجدلية بين الموضوعات التي يدرسها كلٌ من علم الإجتماع وعلم الدين , فقبل ظهور علم الإجتماع الديني في النصف الأول من القرن العشرين كانت موضوعاته و أدبياته مبعثرة و مشتتة في حقلي علم الإجتماع و الدين , وبظهوره انفصلت الموضوعات الإجتماعية الدينية كي تنمو وتتكامل وتصبح قادرة على تفسير الظواهر الإجتماعية تفسيراً علمياً هادفاً .
وهناك عوامل أدت الى استقلالية علم الإجتماع الديني عنهما وهي كالآتي :
1- عدم قدرة علم الإجتماع على دراسة الظواهر الدينية دراسة اجتماعية متخصصة نظراً لسعة وكبر مجاله الدراسي , وتعدد موضوعاته وكثرة العوامل والقوى المؤثرة في الحياة الإجتماعية للإنسان الى جانب عدم اهتمام علم الدين بدراسة الجذور الإجتماعية , الدينية , وأثر هذه الظواهر في البناء الإجتماعي .
2- تعقد الحياة الإجتماعية وتفرعها وتداخل ظواهرها في القيم و الممارسات الدينية مع ظهور الإهتمام المتزايد للدين في شؤون المجتمع , لاسيما بعد طغيان الحياة المادية والنفعية على الحياة الروحية والأخلاقية .
3- ظهور الدراسات والأدبيات الكثيرة في حقل علم الإجتماع الديني (1920-1950) , لاسيما نشر كتاب (علم الإجتماع الديني) و كتاب (البروتستانتية ورح الرأسمالية) لمؤلفه (ماكس فيبر) , وكتاب الوظائف الإجتماعية للكنائس , الى جانب ذلك ظهور عدة اقسام علمية متخصصة في حقل علم الإجتماع الديني التي تم تأسيسها في العديد من الجامعات الأوربية والأمريكية و التي ادت بدورها الى بلورة الإختصاص وتنميته وانتشاره . ( )
ثالثاً / أهمية علم الإجتماع الديني :
تقاس أهمية علم الإجتماع الديني من خلال العلاقة الإجتماعية الحيوية بين الدين والمجتمع والتي يجب ان ُتبحث وُتدرس وفق منظور علمي , ذلك لما لها من مكانة فاعلة ومهمة في المنظومة المجتمعية ومفاصلها , في الدول النامية عموماً , والدول العربية بشكل خاص , ولهذا خصص علماء الإجتماع الغربيين علم الإجتماع الديني ليقوم بتحليل الظاهرة الدينية وتركيبها من جديد من أجل وضع الدين في مكانه المناسب كعلاقة روحية بالفرد لها استقلاليتها بعيداً عن التوظيفات الايدلوجية والسياسية والثقافية على عكس التوظيف الديني والسياسي للإسلام كأيديولوجية في حالة الصراع على الهوية والأصالة مع الحداثة , ان ملاحظة مدى تأثير الدين وتأثره بالمجتمع وعلاقته بالمؤسسات الإجتماعية الأخرى , ودراسة التغيرات التأريخية والمعاصرة التي تطرأ عليه هو أحد أهداف علم الإجتماع الديني الذي يضع بأيدينا مفاتيح الظاهرة الدينية منطلقاً من مبدأ انه لا يمكن البحث في الدين خارج الأطر الإجتماعية والنفسية والتأريخية للإنسان , فالدين كواقع اجتماعي يتغير عن أساسه الإعتقادي , فالإسلام الواحد عقائدياً هو ليس كذلك سوسيولوجياً , ولا يكفينا الكلام على اسلام عربي وغير عربي , اذ هناك تنوع سوسيولوجي للإسلام نفسه , كممارسته لدى العرب انفسهم , وبين المسلمين غير العرب في آسيا وأفريقيا , وأوروبا والأمريكيتين , فالإنقسامات والنزعات الحاصلة داخل الدين الواحد ليست بسبب الإختلافات العقائدية فحسب , وانما ناتجة عن جملة من التناقضات السياسية و الإجتماعية والإقتصادية , فلملاحظ ان كل دين هو في الواقع عدة من المذاهب والطوائف المختلفة والمتناقضة غالباً , فهناك على سبيل المثال كاثوليكية للفلاحين وكاثوليكية للبرجوازية الصغيرة وعمال المدن , وكاثوليكية للمرأة وكاثوليكية للمثقفين , ويتضح من ذلك ان ديناميكية المجتمع وتفرعاته المختلفة تنعكس بشكل أو بآخر على بنية الدين , وبالتالي فأن المجتمع هو الذي يُنتج الظاهرة الدينية .
ان تجريد الدين من جذوره الإجتماعية وتطويقه بإسلاك شائكة من (التابو) ومحاربة البحوث والدراسات العلمية التي تحلله أو تنقده , قاد الى توظيفات سياسية وانتهازية ونفعية من قبل انظمة حاكمة ورجال دين من أجل استغلال وتبرير سلطات قمعية ومؤسسات وحركات متطرفة أصولياً , ان مواجهة هذه الحركات الراديكالية ليس بتكفيرهم أو تجهيلهم بفهم الدين , فهم لم ينطلقوا بفراغ ديني , بل ان المواجهة تبدأ من استقصاء وتغيير الظروف الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي جعلتهم يلوذون بالدين ويوظفونه بهذا الإتجاه الجذري عن الحياة العصرية , فتجريد الدين عن البناء الإجتماعي وحصره بالجانب الروحي للجماعات , واستقلاله كالعلوم الأخرى مثل الإقتصاد والفن والسياسة والعلم , تجعلنا نواجه مشاكل اجتماعية عالقة كالالتزام بحقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة والتعددية والحرية الدينية والعلمانية والحرية الفكرية وغيرها , لذا فمن المهم والضروري جداً دراسة علم الإجتماع الديني وادخاله ضمن منهج علم الإجتماع العام وتدريسه بصورة علمية كبقية العلوم الأخرى . ( )
رابعاً / اهداف علم الإجتماع الديني
يمكن تلخيص اهداف علم الإجتماع الديني فيما يلي :
1- فهم و ادراك الأسس الإجتماعية للظواهر الدينية كالعبادة (الصوم , الصلاة) .
2- فهم وادراك ماهية الظواهر الإجتماعية التي تبرز في النظم والمؤسسات الدينية مثل الصراع والتعاون .
3- من أهداف علم الإجتماع الديني ايضاح العلاقة بين الدين والمجتمع .
4- تثبيت الحدود العلمية بين علم الإجتماع الديني و التخصصات الدقيقة لعلم الإجتماع من جهة وبين العلوم الإجتماعية الأخرى .
5- تطوير علم الإجتماع الديني بحيث يستطيع تفسير جميع الظواهر الإجتماعية والدينية .
6- زيادة عدد العلماء والباحثين في اختصاص علم الإجتماع الديني .
7- السعي من اجل تحرير علم الإجتماع الديني من الذاتية والإنفعالية و العاطفية التي غالباً ما تسيطر على المختصين في هذا الحقل الدراسي .
8- اعتماد مناهج متطورة وحديثة والتي تمكن المختص في علم الإجتماع الديني من اجراء البحوث والدراسات النظرية بكفاءة ودقة أكبر .
خامساً / علاقة علم الاجتماع الديني بالعلوم الأخرى
ان هناك الكثير من فروع العلوم الإنسانية تشترك في دراسة الدين سواء أكانت هذه الدراسة بصفة مباشرة أو غير مباشرة , فهناك على سبيل المثال (اللاهوت) الذي يتناول أساساً حول فكرة الالوهية وصفات الذات الإلهية ومخالفتها أو مشابهتها للمخلوقات التي تربط الخالق بالمخلوق , وهكذا لما كان الدين من الركائز الأساسية لكافة المجتمعات , فقد ارتبط علم الإجتماع الديني بكثير من العلوم , وسوف نشير الى أهم هذه العلوم فيما يلي :
1- علاقة علم الإجتماع الديني بالفلسفة :
ان جميع العلوم الحديثة قد نشأت في أحضان الفلسفة , وأن الفلسفة نفسها قد نشأت في أحضان الدين , ولم يكن هناك فروق بين التفكير الديني والتفكير الفلسفي عند الشرقيين , فالأساطير الشرقية تنطوي على كثير من الأفكار التي تمثل لُب المشكلات الفلسفية , ولكنها عُرضت بإسلوب غير منطقي , كما عرضت المشكلات الفلسفية عند اليونانيين , وان كانت الفلسفة قد حاولت ان تستقل استقلالاً تاماً عن مجال الدين فإن مناخها لم يزل دينياً , حتى اننا نرى ان بعض المدارس الفلسفية تتخذ لها بعض الشعائر والطقوس الخاصة كما لو كانت قد أصبحت نِحلة من النِحل الدينية الخاصة مثل الأفلاطونية الحديثة واخوان الصفا , ومن جهة أخرى كانت هناك محاولات للربط بين الدين والفلسفة ولاسيما الأديان السماوية و اذ حاول بعض الفلاسفة التأكيد على عدم وجود تعارض بين الدين و الفلسفة , حيث يظهر عند الفلاسفة المسلمين وخاصة عند الفرق الإسلامية الكلامية ومن أهمها المعتزلة , ولذلك لم تكن العلاقة بين الدين والفلسفة علاقة توافق دائماً , بل كثيراً ما ينشأ نزاع بينهما يزداد احياناً ويقل احياناً , فقديماً أتهم سقراط بأنه يفسد عقول الشباب الأثيني , ويبشر بآلهة جديدة , ومن هنا حكم عليه بالسجن حتى الموت , وقد عارضت الكنيسة الأوربية في العصور الوسطى أفكار الفلاسفة التقدميين , كما عارضت الدولة الإسلامية الفلسفة والفلاسفة وحرمت بعض مؤلفاتها .
ان من نقب عن الديانة وبحث عنها من وجهة نظر فلسفية , رأى أنها ليست سوى مجموعة متماسكة من المبادئ يفسر بها الإنسان أسرار الكون , فهي تتحدث عن نشأة العالم والخليقة واضمحلال المادة ومصير الإنسان بعد الموت , والخير والشر وعلاقات الناس بعضهم ببعض , اي بعبارة واحدة , عن الطبيعة والإنسان والمجتمع , وما ذلك إلا مدار الأبحاث الفلسفية , وهذا ما دعا الى القول بأن ابتداء ظهور الفلسفة كان بظهور الديانة , أي حسب النظرية الإجتماعية من يوم وجود المجتمع الإنساني , والواقع ان التعاليم الدينية تضم اليها شتى المباحث الفلسفية من امثال أفكارنا عن القوة والأسباب والنتائج والزمن والفضاء وتصنيف الحوادث والأشياء , وهي لا تجهل شيئاً مما ينتجه المجتمع الإنساني , لأنها هي نفسها من صنعه وعلى صورته ومثاله , فكأني بها مرآة كل ما فيها منه واليه تنعكس عليها أجمل مظاهره وأقبحها , فأن اعتقاد الإنسان بقوة تدير شؤون الكون , قد أخذته الفلسفة أولاً , والعلوم ثانية عن الدين , فالتيار الذي يولده الإجتماع وتجمهر الناس , والكائنات الطبيعية الكبرى المحيطة بالإنسان , و الغريزة الجنسية الدافعة الى اجتماع الأفراد , هي أمور تحمل المرء في وحشيته على القول بوجود قوى لا يستطيع اخضاعها لإرادته . ( )
2- علاقة علم الإجتماع الديني بالقانون :
من الواضح وجود ارتباط بين القانون والدين وخاصة لدى قدماء اليونانيين والرومان والهنود والصينيين , وكذلك الحال لدى اليهود والمسيحيين و المسلمين في العصور الوسطى , وترجع تلك الصلة الى ان الناس تتقبل القانون بدرجة عالية وخاصة اذا ما كان مرتبطاً بالدين .
3- علاقة علم الإجتماع الديني بالعلم :
يعتمد علم الإجتماع الديني على مناهج البحث في علم الإجتماع العام , ولكنه يتأثر بشكل واضح بالعلاقة بين العلم والدين , حيث ان منهج البحث في العلم يعتمد على المحسوس , أما جوهر الدين فيحتاج الى منهج يصلح لتناول القضايا غير المحسوسة , أو قضايا عالم ما بعد الطبيعة والنزاع بين العلم والدين لم ولن يتوقف , فكلما تزايدت المكتشفات العلمية تزايد التناقض بين العلم والدين نظراً لعدم تقبل علماء الدين الأوائل الحقائق العلمية اذ حاول رجال الدين ان يجبروا العلماء على دحض ما توصلوا اليه من نتائج علمية , كما فعلوا مع جاليليوا لتعارضها مع الدين .
4- علاقة علم الإجتماع الديني بالفن :
ان الفن يُعد مظهراً اجتماعياً لا مادياً يشتق وجوده من حاجة الناس الى اجتماعهم مع بعضهم البعض , فهو مظهر تلقائي من مظاهر الحياة في الجماعة له وظائف دينية وحربية وعائلية , فالإحتفالات الدينية تتطلب كثيراً من مظاهر الفن , والحرب تتطلب هذه المظاهر على الدروع , وفي الأزياء الخاصة بالحرب وفي الأناشيد والأغاني الحربية , وفي رقصة الحرب , وبذلك بلغ تأثر الرسم والموسيقى بالدين تأثراً كبيراً , ولا سيما في الديانة المسيحية في القرون الوسطى , لذلك يمكن القول بأن الفن بوجه عام كان متصلاً بنشأة الدين .
ويظهر أثر الدين على الفن بشكل يُغني عن كل بحث لوضوحه , وعلى سبيل المثال لا الحصر , ما على المرء إلا ان يدخل احدى الكنائس , أو يزور بعض المتاحف ليشاهد من التماثيل والصور ذات الطابع الديني , ولا يظهر هذا الأثر فقط في الديانات الراقية , بل انه يظهر ايضاً في المجتمعات الأولية البسيطة , حيث تكون الحياة الإجتماعية متصلة اتصالاً وثيقاً بالحياة الدينية , وذلك لأن تجمهر الأفراد للإشتراك في المناسبات أو الحفلات الكبرى يدعو عفواً وضرورة انتظام الحركات والأصوات , فينشأ من جراء ذلك نظام في حركات الأيدي والأرجل والجسم , وترتيب في الأصوات والسواكن , مما يؤدي الى فنّي الرقص والغناء . ( )
5- علاقة علم الإجتماع الديني بالإقتصاد :
ان صلة النشاط الإقتصادي بالإجتماع الديني صلة وثيقة , فهي تمثل وجهين لعملة واحدة لجميع الأديان , ويلاحظ ذلك في المجتمعات البدائية , حيث كان تنظيم العمل وتقسيمه بين الرجال والنساء على أساس ديني , كما كانت الدورات الزراعية لدى قدماء المصريين على سبيل المثال و ترتبط بحفلات دينية خاصة أيام الحصاد , ولا يزال الكثير من سكان المجتمعات البدائية , والمزارعين والرعاة في كافة المجتمعات الإنسانية يربطون حياتهم الإقتصادية بأنظمتهم الدينية .
ان للدين تأثير كبير بما يتضمنه من قيم على خلق أنظمة اقتصادية معينة , والإسلام على سبيل المثال بقيمه أثر في ظهور نظام اقتصادي له ملامح معينة نطلق عليها (الإقتصاد الإسلامي) , وهذا النظام يستمد دعائمه من الديانة الإسلامية , فقد ذكر الإقتصادي الفرنسي (جاك أوستري) في مؤلفه (الإسلام في مواجهة النمو الإقتصادي) ان طريق الإنماء الإقتصادي ليس محصوراً في النظامين الإقتصاديين المعروفين الرأسمالي والإشتراكي , بل هناك اقتصاد ثالث راجح هو الإقتصاد الإسلامي الذي يبدو في نظره سيسود عالم المستقبل لأنه أسلوب متكامل يحقق كافة المزايا . ( )
6- علاقة الدين بالسياسة :
لو فرضنا ان العلاقة بين الدين والسياسة هي عبارة عن متصل سوف نجد ان أحد أطراف هذا المتصل توجد حكومات تسمى بالحكومات الدينية الخالصة , وهذه الحكومات تقوم على فكرة حكم الإله أو الإله الحاكم , وقد عرفت المجتمعات الإنسانية منذ اقدم العصور هذا الشكل من الحكومات , فنجد ان الملوك والرؤساء ليسوا مجرد حكام يملكون السلطة الزمنية فقط , وانما هم يجمعون اليها كثيراً من السلطات الروحية المتوارثة , ويستمدون سلطتهم السياسية مما اتفقوا عليه من أوضاع دينية لديهم , كما انتشر هذا الشكل من الحكومات الدينية الخالصة في الحضارات الشرقية القديمة , وخاصة في مصر الفرعونية , فمثلاً نلاحظ ان البناء الإجتماعي بالنسبة لمصر القديمة كان يرتكز أساساً على تقسيم طبقي في قمة هذا البناء الطبقي , يقوم الفراعنة لا بإعتبارهم مجرد حكام سياسيين , أو رؤساء للدولة ولكن بإعتبارهم أيضاً آلهة أو أشباه آلهة أو منحدرون من آلهة , ولذلك فإنهم يجمعون في آن واحد بين السلطات الزمنية والدينية , والشيء الهام في هذا النظام هو الإرتكاز و الإسناد الى النظام الديني , وقد كان النظام الديني هو الذي يساند على ابقاء هذه الأوضاع الإجتماعية , كما انه كان بتغير النظام الديني تتغير النظم السياسية والإقتصادية , ذلك لأن الفكر الإجتماعي كان يصور الآلهة المحليين لا على انهم مجرد آلهة روحيين , وإنما كانوا أيضاً بمثابة قادة حربيين ورؤساء سياسيين . ( )
وقد تحدث ماكس فيبر عن السيطرة داخل مجال الدين والسياسة , وذلك في اطار مفهوم الشرعية بنماذجها الثلاثة , التقليدية والكاريزمية والعقلانية , وهي النمذجة التي كانت وراء بروز سجالات فكرية واسعة منذ سنوات الخمسينات من القرن الماضي , حيث شكلت آلية مهمة لتمييز أشكال السلطة الشرعية عن غيرها , وأيضاً لتحليل عدد مهم من الظواهر السياسية والدينية , ومن هنا جاء اهتمامنا بسوسيولوجيا السياسة والدين عند فيبر , اللتان تُعدان احد ابرز نماذج التحليل السياسي والديني خلال القرن العشرين . ( )
لقد لاحظ فيبر فيما يخص العلاقات بين السياسي والديني , ان الأديان تبنت عبر التأريخ مواقف عملية شديدة التنوع تجاه العمل السياسي يتمثل ذلك بدءاً من المعارضة الراديكالية للسياسة متخذة شكل البحث الصوفي أو مظاهر الإلتزام والورع الديني , وصولاً الى حالة الإستيعاب الديني للسياسة في اطار حرب مقدسة وعبر الخضوع الدائم للسلطة السياسية الدنيوية . ( )
الفصل الثاني / الدين The Religion
المبحث الأول / تحديد مفهوم الدين
يشكل الدين مجموعة من المعتقدات والتطبيقات , ولقد اتفق العلماء ولا سيما الأنثروبولوجيين منهم على أهمية هذا النظام الاجتماعي الذي لا يخلو منه مجتمع على وجه الكرة الأرضية , ولكن معالجتهم لهذه المعتقدات والتطبيقات كانت متباينة الى حد كبير وفي مختلف الازمان والعصور , فلقد كان الاعتقاد عند البعض في القرن التاسع عشر على سبيل المثال ان المعتقدات قد ظهرت أول مرة كتفسيرات ساذجة للتجارب , وان الدين قد بني على تلك التفسيرات , ثم جاءت فترة اعتبرت فيها التطبيقات ذات أهمية قصوى , وان المعتقدات ما وجدت الا لتبرر تلك التطبيقات , واليوم رغم اننا لم نعد الى تفسيرات القرن التاسع عشر التي تعتبر الدين نتاج تفسيرات تنطوي على مغالطات , فأننا نعرف ان لكل مجتمع نظرته للعالم الخاصة به , وان في المجتمعات التي تنعدم فيها تقاليد العلم التجريبي , فإن حقائق هذا العلم تتشكل بهيئة اعتقاد ديني . ((
وحينما نلقي نظرة عابرة على كل دين ومذهب تأريخي , ستلاحظ ان الكثير مما في هذه الأديان من تعاليم نظرية او أحكام عملية , ترجع في الحقيقة الى كون هذه الأديان ظهرت في مقطع تأريخي خاص , وموضع جغرافي خاص , وفي ظل ظروف وأوضاع ثقافية وحضارية خاصة . ( )
فالدين ظاهرة عالمية شغلت أذهان المفكرين وعلماء الإنسان و الإجتماع , فقد كانت تثار على الدوام تساؤلات كثيرة حول (ماهية الدين) أو لماذا يفكر الناس في الدين ؟ وكيف يفكر الناس في ذلك ؟ وقد تطلبت هذه التساؤلات اجابات علمية , وشأن هذه الظاهرة شأن الظواهر الإجتماعية الأخرى قُدمت فيها كثير من الآراء والفرضيات المتضاربة , فمنها ما اعتمد المنطق , ومنها ما استند الى التأمل والتخمين حيث لم يكن هناك ادلة كافية على تتبع اصل هذه الظاهرة وليس من السهل ان تسبر غور الإنسان فتصل الى سبب واحد مقنع يفسر اندفاع الإنسان لإن يسلك سلوكاً دينياً . ( )
كذلك فإن التنوع والتعدد والتباين في الأديان لا يُمكّن الباحثين والدارسين من اعطاء تعريف واسع جامع مانع للدين , فقد يُعرف اتباع ديانة ما معتقدهم الديني بأنه الإيمان بقوة علوية سامية تمد الناس بقيم أخلاقية وأنماط سلوكية معينة , وتبشرهم أو تنذرهم بحياة اخرى , لكن مثل هذا التعريف قد لا يصدق على جميع المعتقدات الدينية في العالم . ( )
لا يوجد تعريف واضح ومحدد للدين , فهناك العديد من التعاريف التي تتصارع من اجل الوصول الى مفهوم دقيق وشامل , لكن في النهاية مثل هذه مواضيع تخضع لإيمان الشخص الذي يضع التعريف , وبالتالي يصعب وضع تعريف شامل يرضي جميع الناس , فالدين يتضمن أحدى أقدم نقاط النقاش على الأرض , وفي القدم كان النقاش يتناول شكل وطبيعة الإله الذي يجب ان يُعبد , اما في العصر الحديث فيركز موضوع النقاش حول وجود أو عدم وجود إله خالق تتوجب عبادته .
لذلك نجد من يحاول تعريف الدين من منطلق إيماني وروحاني ويقيني , أو من منطلق إلحادي او من منطلق عقلاني يحاول دراسة الدين كظاهرة إجتماعية او نفسية او فلسفية .
ان علماء الإجتماع ينظرون الى الدين على انه مجموعة مجردة من القيم والمثل او الخبرات التي تتطور ضمن منظومة ثقافية لجماعة بشرية , فالدين كان من الصعب تمييزه بنظرهم عن العادات الإجتماعية الثقافية التي تستقر في المجتمع لتشكل البعد الروحي له .
وعموماً يمكننا القول بأن الدين ما هو إلا جملة العقائد والتصورات عن الخالق والمخلوقات وكيفية صدورها عن الخالق والمخلوقات , تكونت من خلال الإيمان الذي يتأتى عادة عن طريق الوراثة , فالأبناء عادة على دين الآباء يولدون على الفطرة والآباء ينصرونهم أو يسلمونهم , وتدعم هذه العقائد , و يتجدد فعل الإيمان بها بأنواع من السلوك والتصرفات والعادات تتم جميعها بأشكال محددة مسبقاً , وتتجسد بطقوس ومراسيم ورموز تؤمن التجديد اللازم لهذه العقائد , وتغذي السلوك الإجتماعي بنوع من الأخلاق يستلهم الدين من أجل الإرتقاء بالإبتعاد عن الشر بسلوك طريق الخير . ( )
فالدين هو العلاقة الروحية والعاطفية بين الإنسان وقوى ما فوق الطبيعة , أو الكائنات التي يقدم لها العبادات ويقيم لها الممارسات الطقوسية التي تُعينه على الإتصال بهذه القوى وتمكنه من إدامة تلك العلاقة التي تصبح مقننة في النظام الإجتماعي , ويعرف الدين كذلك بأنه نسق من المعتقدات والممارسات المباشرة الموجه نحو اهتمامات المجتمع الأساسية و الجوهرية , ويعرف أيضاً بأنه مجموعة من النظم الصارمة . ( )
وهناك منظومة من الخصائص تشترك فيها جميع الديانات , فهي تتضمن مجموعة من الرموز التي تستدعي الإحترام وتوحي بالرهبة , كما انها ترتبط بمجموعة من الطقوس والشعائر او الممارسات الإحتفالية التي يؤديها من يعتنقون هذا المذهب او ذاك , ويحتاج كل واحد من هذه العناصر الى بعض التفصيل والإيضاح , ففي بعض الديانات يؤمن الناس بقوة سماوية واحدة مقدسة يعبدونها , وهناك شخصيات اخرى في بعض الديانات , مثل بوذا وكونفوشيوس تستوجب الإحترام والتقدير , غير انها لا تستلزم التقديس والعبادة . ( )
وقد عرف الأستاذ إدوارد تايلر الدين البدائي بأنه الإعتقاد بالقوى الروحية , ويتفق الباحثون على ان هذا التعريف يمثل الحد الأدنى لمضمون النظام الديني , ويقصد تايلر بالقوى الروحية الأرواح والأشباح والعفاريت والجن والأقزام الخرافيين وغيرها , وهي كلها تشترك بصفة واحدة وهي افتقارها للأجساد على الرغم من وجودها اليقيني حسب اعتقاد الجماعات البشرية في ذلك . ( )
وهناك بعض المصطلحات المرتبطة بمفهوم الدين توجب طرحها لغرض الإحاطة بالموضوع وهي كما يلي :
1- العقائد: هي عبارة عن أحكام أو اتجاهات تتعلق بالواقع الإجتماعي , حيث تعتنقها الجماعات بإعتبارها صحيحة , ويختلف هنا مفهوم المعتقدات عن مفهوم القيم التي تعرف بأنها أنساق شبه مقننة تستخدمها الجماعات في قياس وتقدير المواقف الإجتماعية , ويعتمد تحديد المعتقدات على الملاحظة التجريبية والمنطق , ويشار الى المعتقدات بأنها أحكاماً تتناول الواقع ., وبالتالي فهي وسائل اتخذتها الأديان لتحفظ الأذهان من كل بلبلة , وترد عنها غائلة الشك , فهي اقوال لا هوتية تفصح عن معتقدات بيئة ما , وهذه المعتقدات تتعلق بأمور دينية , سلمت بصحتها السلطات الروحية , وأمرت بالقول بها كأنها منهج الحق . ( )
2- العبادات : يُعرف علماء الأنثروبولوجيا العبادات بأنها محطات للنظم الدينية في المجتمعات , وخاصة في المجتمعات المتأخرة .
ويرى علماء الإجتماع بأنها عبادات الأقليات الدينية , ويصفها البعض بأنها بناء من المعتقدات الممارسات المتعلقة بالإله او ما بعد الإله , ولذلك فهي تشكل نوعاً من انواع النظام الديني .
3- الطوطم والتابو : الطوطم عبارة عن حيوان أو نبات أو جماد تتخذه عشيرة أو قبيلة رمزاً يميزها عن بقية العشائر أو القبائل , ويسمى أفرادها كافة بإسمه لإعتقادهم بأنه حبرهم المقدس وحاميهم , ويشعرون انهم يرتبطون به ارتباطاً خاصاً غامضاً , وتقوم عقائد العشيرة أو القبيلة وطقوسها الدينية جميعها على تقديس الطوطم , وحين يكون الطوطم حيواناً فإنه لا يُصطاد ولا يؤكل بل ان أتباعه يقدمون له الغذاء ويدفنون من يموت منه أحياناً . ( )
أما التابو وتعني المحرمات وهي كلمة بولونيزية تعادل كلمة مقدس أو محرم عند الرومان , وتعني أيضاً ممنوع أو نجس أو غير نظيف أو خطر , ويمكن القول بمعنى
رد: علم الإجتماع الديني المفاهيم الأساسية - النشأة والتطور
أصح أنها تعني الخوف المقدس , والقداسة هنا ليست دينية أو أخلاقية , وانما هي قداسة جمعية يأخذ بها كل الأفراد , وهي ايضاً قداسة زمنية لأن أفراد الجيل السابق أخذوا بها , فالمسألة اذن فيما يتعلق بالمحرمات مسألة عادة اجتماعية ثابتة تنطوي على مجموعة من النواهي الإلزامية التي تستمد سلطانها من قداسة مصدرها . ( )
4- الوحدانية : وهي معتقد يقوم على أساس ان هناك إلهاً يسمو وجوده عن الآلهة الأخرى القائمة , ومن ثم تتحتم عبادته قبلها جميعاً , ومعتقد الوحدانية يختلف عن عقيدة التوحيد التي لا تعترف إلا بإله واحد يُعبد وحسب .
5- التدين : ويعني الإهتمام بالأنشطة الدينية والمشاركة فيها , ويعني أيضاً مجموع انماط السلوك و الإتجاهات التي يحكمُ عليها الفرد بإعتبارها دينية في جماعة أو مجتمع معين
6- التطرف الديني : هو نتاج التعطش الديني والتوجه الخاطئ لدى الشباب , وكذلك حالة الفراغ والضياع الديني في كافة المجتمعات , ونتيجة الفشل التكنولوجي وحدها بأن تكون هدفاً للحياة الإجتماعية , وفشل الثقافة المادية في أن تقدم المحراب البديل عن المسجد والكنيسة والمعبد , والمتطرفون هؤلاء من جميع الأديان ليسوا في الواقع دين سوى دين أنفسهم , فهم عابدون لذواتهم وتصوراتهم الشخصية وليس لله الواحد الداعي الى التواضع والمسالمة .
7- الشعائر والطقوس : والشعيرة هي تعبير عن المشاعر المشتركة والاتجاهات, من خلال أفعال وممارسات منظمة رسمياً بدرجات متفاوتة. كذلك قد تتضمن بعض التوجيهات نحو موضوعات واقعية أو غير واقعية قادرة على إظهار اتجاهات الولاء والأقدام. ومعنى ذلك إن الاحتفالات الشعائرية هي صور سلوكية تعبر عن عواطف معينة نحو موقف اجتماعي, وتستهدف تدعيم روابط التضامن بين الأشخاص المشاركين فيها( ). وتعد الشعيرة طريقة من طرائق السلوك الرسمية التي تعبر تعبيراً رمزياً عن أهمية حادثة معينة أو مناسبة أو عقيدة ما( ). أما الطقوس هي قواعد السلوك التي تقرر كيفية التعرف مع الأشياء المقدمة, هذا ما كتبه (أميل دوركهايم) أذا يعتبر شأنه شأن (مارسيل موس) أن الطقس الديني بامتياز هو الأضحية التي تتيح تواصل أنساني مع اله أو مع الأجزاء بواسطة موضوع ما. ومع ذلك تظل وظيفة الطقوس وظيفة اجتماعية : فالطقس برأي دوركهايم هو إسقاط يقوم به المجتمع, وتقوم قوة الطقس على خلق جماعة أخلاقية فكرية وعاطفية في آن واحد( ) . والطقوس كما يعرفها علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي مجموعة حركات سلوكية متكررة يتفق عليها أبناء المجتمع وتكون على أنواع وأشكال مختلفة تتناسب والغاية التي دفعت الفاعل الاجتماعي أو الجماعة للقيام بها .( ) والطقس هو فعالية تنجز على وفق طريقة يرسمها العرف الحضاري وهي ترمي إلى استشارة عطف الإلهة أو تجنب غضبهم( ).
8- الطائفة الدينية : وهي جماعة تقوم على أساس الإشتراك في عقيدة أو مذهب ديني مستمد من تلك العقيدة , ولذلك فهي جماعة متماسك , فالعضوية فيها تكون تطوعية أكثر منها الزامية .
وقد تباينت وجهات نظر الفلاسفة والعلماء حول تحديد مفهوم الدين , فكلاً يراها حسب اتجاهاته الفكرية واختصاصه العلمية , ومن وجهات النظر هذه ما يلي :
1- الفكر الفلسفي :
حيث حاول أصحاب هذا الإتجاه من المفكرين والفلاسفة الربط بين الفلسفة والدين أو بين العقل والإيمان , حيث يرى الفيلسوف (ديكارت) في كتابه مبادئ الفلسفة انه من واجبنا أن نتخذ لنا قاعدة معصومة , أن ما أوحى به الله هو أوثق بكثير من كل ما عداه , وفي كتابه مقالة عن المنهج يقول انه ينبغي لنا ألا نقبل شيئاً على انه حق ما لم نتبين ببداهة العقل انه كذلك . ( ) , أما الفيلسوف (كانت) , فيرى أن الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية سامية . ( ) , ويرى هيجل أن الدين فن باطني يصور لنا الحقيقة الإلهية من الداخل عن طريق الشعور الباطني . ( ) , ويرى القديس (انسالم) ان العقيدة ليست سوى قوة يستعين بها العقل من اجل فهم حقائق الكون فهماً عقلياً , أما القديس (توما الإكويني) , فأنه يذهب الى ان العقل والوحي وسيلتان من وسائل المعرفة , وهما قد صدرا من أصل واحد مشترك , فإن الله هو الذي أودع العقل في الإنسان وهو الذي أعلن للناس حقائق الوحي , في حين ان القديس (اوغسطين) عبر عن رأيه في عباراته الشائعة التي قال فيها العقل يسبق الإيمان , والإيمان يسبق العقل وأنا أؤمن لكي أتعقل . ( ) , ويعرف (شلاير ماخر) ان الدين هو خضوعنا لوجود لا يناله ادراكنا , أو انه خضوع الإنسان الى موجود أسمى منه . ( )
2- الفكر الإجتماعي :
يرى كل من (ماكيفر) و (شارل بيج) ان الدين علاقة لا تقوم بين انسان وانسان آخر فحسب , ولكن هو علاقة بين الإنسان وقوة أعلى منه , أما شاتل فيرى ان الدين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق . ( )
ومن وجهة نظر (فريزر) , فالدين يبدأ بظهور فكرة الآلهة , أو على الأكثر تقدير بظهور فكرة أرواح الأفراد أو أرواح الطبيعة التي يتخيلها المرء على غرار أرواح البشر , أو أن الدين يبدأ بظهور فكرة الآلهة وعلى الأقل بظهور النفوس الفردية ونفوس الموت والقرائن الطبيعية في شكل آدميين . ( )
أما (دوركهايم) فيرى ان الدين هو عبارة عن مجموعة متماسكة من العقائد والعبادات المتصلة بالعالم المقدس والتي تنظم سلوك الإنسان حيال هذا العالم , بحيث تؤلف هذه المجموعة وحدة دينية تنظم كل من يؤمنون بها , أو انه مجموعة متماسكة من العقائد والعبادات المتصلة بالأشياء المقدسة مميزة وناهية بحيث تؤلف هذه المجموعة وحدة دينية متصلة بكل من يؤمنون , أو ان الأمور الدينية هي أمور قدسية . ( )
ومن وجهة نظر (جويوه) التي تبناها في كتابه (لا دينية للمستقبل) , فإن الدين هي تصور المجموعة العالمية بصورة الجماعة الإنسانية والشعور الديني هو الشعور بتبعيتنا لمشيئات أخرى يركزها الإنسان البدائي في الكون , أما (ميشيل مايير) في كتابه (تعاليم خلقية ودينية) يقدم لنا تعريفاً يقول فيه ان الدين هو جملة العقائد والوصايا التي يجب ان توجهنا في سلوكنا مع الله ومع الناس وفي حق انفسنا , ويرى (سلفان ببريسيه) في كتابه (العلم والديانات) بأن الدين هو الجانب المثالي في الحياة الإنسانية , وفي كتاب (التأريخ العام للديانات) (لسالومون ريناك) يقول فيه ان الدين هو مجموعة التورعات التي تقف حاجزاً امام الحرية المطلقة لتصرفاتنا . ( )
3- الفكر النفسي :
ومن ممثلي هذا الإتجاه (كوستاف لوبون) , حيث يرى ان اعتقاد الجماعات يصطبغ بصبغة خاصة عبر عنها بالشعور الديني , ولهذا الشعور مميزات بسيطة للغاية كعبادة (ذات) يتوهم انها فوق الذوات والخوف من القوة التي يبطن بها والخضوع الأعمى لأوامرها واستحالة البحث في تعاليمها والرغبة في نشرها والنزوع الى معاداة من لا يقول بها , ومتى تكيف الشعور بهذه الصفة فهو من طبيعة الشعور الديني . ( )
ويرى (برجسون) فيما أشار اليه بالدين الديناميكي أو المتطور , بأن الدين من خلق انسان من صفوة البشر أو من نخبة الناس سما الى فكرة مثالية , وحاول أن ينبثق من أعماقه دين أو فكرة تفيض على الإنسانية كلها , وقد حقق بعض كمال الخلق من أمثال المسيح فكرة هذا الدين . ( ) ويعرف ريفييل بأن الدين تحقيق الحياة الإنسانية بواسطة الإحساس بأن رباطاً يصل الروح الإنسانية بالنفس الخفية التي تعترف الأولى بما لها من سلطان على العالم وعليها والتي يجب ان تكون شاعرة بالإتصال بها دائماً , حيث يرى ان الدين هو ان تأسس الحياة على الإحساس برابطة تضم الروح البشرية مع الروح الخفية التي تُدرك سيطرتها على العالم وعلى الروح البشرية نفسها وتحب تلك الأرواح الخفية بعاطفة واحدة .( )
ويعرف فويرباخ بأن الدين هو الغريزة التي تدفعنا نحو السعادة . ( )
4- الفكر الإحيائي :
ومن أهم أصحاب هذا الفكر (هربرت سبنسر) , الذي يرى بأن الدين هو الشعور بأننا نسبح في خضم من الأسرار , أو هو الإحساس الذي نشعر به حينما نغوص في بحر من الأسرار , وكذلك يرى (ماكس مولر) ان الدين هو الشعور اللانهائي , أو انه احساسنا باللامتناهي . ( ) , ويرى (تايلور) الدين بأنه الإعتقاد في الكائنات الروحية أو الإعتقادات في الموجودات الروحية . ( )
وبالرغم من تعدد المنطلقات الفكرية واختلافات وجهات النظر في تناول ومعالجة الظاهرة الدينية , فإن هناك شبه اجماع من جانب العلماء على تقسيم تعريفات الدين الى ثلاث فئات رئيسية وهي كالآتي :
• تعريفات متعلقة بجوهر الدين .Substantive Definitions
• التعريف الوظيفي .Functional Definition
• التعريف الرمزي . Symbolic Definition
1- التعريفات المتعلقة بجوهر الدين :
لتحديد جوهر الدين مداخل مختلفة , فمن العلماء من اتخذ الإعتقاد مدخلاً لتحديد جوهر الدين , وقد استخدم تايلور هذا الإتجاه منذ عام 1873عندما حدد الدين بأنه ( الاعتقاد بالكائنات الروحية ) , فنحن مرجعنا إله او آلهة وهذا هو العامل الأساسي في الدين , ويرجع استخدام تايلور لمفهوم الكائنات الروحية الى ان المجتمعات غير المتحضرة كان افرادها يؤمنون ويخشون أسلافهم الموتى , فإعتقادهم في الكائنات غير المرئية كان يفوق اعتقادهم في الإله , لذلك نظر تايلور الى ان الكائنات الروحية هي مفهوم اساسي عند البدائي , وكثير من الاجتماعيين المحدثين يؤيدون رأى تايلور في تأكيده على ان الدين ينطوي على الإعتقاد في كائن او كائنات لم تحس عن طريق العمليات الواقعية الطبيعية , في حين اشار ر . ماريت الى ان الدين في كثير من الثقافات حركة اكثر منه فكر , اي ان الطقوس والعواطف تحتل المركز الأول في الدين ثم يليها الإعتقاد , وقد أكد بعض الباحثين ان القول بأن الإعتقاد هو شيء أساسي في الدين أدى بكثير من الأنثروبولوجيين الى ان يفقدوا الوصول الى حقيقة جوهر الديانات غير الغربية , ويرى دوركهايم ان كل تجارب التقديس والشعور بالخشية من المقدس تكون دينية لذلك فالدين في رأيه هو نسق موحد من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء مقدسة هذه الأشياء تمثل مجموعة من الأوامر والنواهي .( )
2- التعريف الوظيفي :
قدم ميلتون ينجر تعريفاً شاملاً , حيث يرى أن التركيز يجب أن ينصب على ماذا يفعل الدين , اي على الجانب الوظيفي للدين , وقد تأثر ينجر في تعريفه للدين بماكس فيبر الذي يرى ان الدين حاجة اساسية انسانية رغم تفاوت طبيعة وشدة هذه الحاجة عند مختلف الأفراد , وكذلك تأثر برجل الدين بول تليش في وصفه للدين بأنه الإهتمام المطلق هو فهم الغرض من الحياة والمعاناة والشر والظلم , من هذه المنطلقات حدد ينجر الدين بأنه نسق من المعتقدات والممارسات التي بواسطتها يكافح جماعة الأفراد المشكلات المطلقة للحياة الإنسانية , وبذلك فوظيفة الدين تتمثل في انه يقدم للأفراد التفسير لمشكلاتهم الحياتية ويمدهم بإستراتيجية لقهر اليأس والشعور بالإحباط , ويؤكد ينجر كغيره من الإجتماعيين على أن الدين هو ظاهرة اجتماعية , فهو يعايش ويكسب كثيراً من جوانب معايشته في تفاعل الجماعة , فالعبادة المنفردة قد تحمل أنماط من المعنى ربما يكون لها جوانب تدين إلا أنها ليست ديناً , وهذا ما عبر عنه ينجر على أن أي نسق اعتقاد وفعل يفشل في تفسير التساؤلات المتعلقة بالحياة فهو ليس دين . ( )
3- التعريف الرمزي :
لقد وضع غيرتزC. Geertz تعريفاً رمزياً للدين والذي ينطوي على ما يفعله الدين , ولما كانت سهلة الملاحظة فقد جعلها نقطة البدء في تعريفه للدين , والرموز قوة جبارة في السلوك الإنساني وهي مركز الدين , والرموز تشتمل على أشياء مثل (الصليب , المصحف , نجمة داود) , وعلى سلوك مثل (السجود , والركوع , اللمس , التقبيل) وعلى قصص أيضاً , وليست كل الرموز دينية , فهناك رموز (التصافح , الإشارة باليد) فهي تعتبر سلوكيات رمزية , واعتبر غيرتز الرموز الدينية على أنها شكل من أشكال المقدس , وقد ميز بين نوعين من الرموز وهي الرموز الكبرى Macro_ symbolic والرموز الصغرى Micro_ symbolic وعلاقتها بالرموز الدينية , فالرموز الكبرى وما تتضمنه من رموز تساعد الفرد في تفسير معنى الحياة وما تنطوي عليه من نظرة كونية أو عالمية , أما الرموز الصغرى فهي تتضمن رموزاً غير دينية , رموز تمس التفاعل اليومي وجوانب الإتصال والتعاون , وهذا الشكل من الرموز لا يفسر الغرض من الحياة ولا يقترح قيماً واعتقادات .
وقد حدد غيرتز الدين في كلماته الآتية :
الدين يكوّن :
- نسق من الرموز تتفاعل .
- تنشأ حالات نفسية قوية ودوافع في الأفراد بواسطة .
- صياغة مفاهيم عن النظام العام للوجود .
- تغليف هذه المفاهيم بهالة من الواقعية .
- حيث تبدو الأمزجة أي الحالات النفسية والدوافع حقيقية وفريدة .
وبالرغم من طول تعريف غيرتز للدين فإن تعريفه قدم اسهاماً حول تميز الدين عن مختلف الظواهر الثقافية , ولكن الإسهام الحقيقي تمثل في انه ذهب الى أن الدين لابد وأن يشتمل على نسق كبير من الرموز التي تتفاعل لتقوي وتدعم النظرة الى العالم وروح الجماعة , فتعريف غيرتز هو مقال في كيف يعمل الدين على تدعيم نفسه ؟ وماذا يفعل الدين في المجتمع ؟ ولذلك فإن التعريف الرمزي يمكن أن يُعالج على أنه نمط من التعريف الوظيفي .( )
نستخلص من التعريفات الدين السابقة انها تكون واحدة من نمطين :
التعريفات الجوهرية (التي تركز على أساس وجوهر الدين) أو التعريفات الوظيفية (التي تركز على ما يفعله الدين)
التعريفات الجوهرية تركز على اعتقاد المحدد مثل :
الاعتقاد في الكائنات فوق الطبيعية وتركز على التفرقة بين المقدس والعلماني فهي تصب على الاشكال التقليدية للتدين .
أما التعريفات الوظيفية , فتعرف الدين على انه الشيء الذي يمدنا بالشعور بالمعنى المطلق , نسق من الرموز الكبرى , مجموعة من القيم الأساسية للحياة . ( )
ويشير البعض الى ان هناك ثلاث معاني يستخدم لفظ الدين للدلالة عليها وهي :
المعنى الاول : يشير الى النصوص المكتوبة والمقدسة لدى الأديان .
المعنى الثاني : ويراد منه الآراء والنظريات والعقائد التي ترجع الى أكثر من حقل معرفي , ولا تنتمي جميعها لحقل معرفي واحد , فبعضها فقه , وبعضها أخلاق , وبعضها إلهيات بالمعنى الأخص (اي علم الكلام) , وبعضها عرفان , وبعضها فلسفة , حتى أن بعضها يشمل الآراء والنظريات الوضعية , كالتأريخ والجغرافيا . ( )
المبحث الثاني / وظائف الدين
الدين ينظر اليه كظاهرة اجتماعية , وجد أساساً لخدمة الإنسان , طالما ان الإنسان موجود قبل أي دين , بل هو الذي أوجد الدين , الدين على هذا الأساس ظاهرة اجتماعية , فهو إذن احد عناصر المشكلة للبنية الثقافية المنتمية الى مجتمع ما , وهو عنصر ثقافي رئيسي , لا مجتمع بلا ثقافة , ولا مجتمع بالتالي بالا دين , أي بلا نظرة جلية الى الكون والحياة والى ما وراء الحياة , فلا يمكن تصور مجتمع في خواء روحي أو فراغ ديني , وعليه فإن الدين يشكل جزءاً من تفكير الإنسان – المجتمع , وبالتالي جزءاً من الثقافة المجتمعية , ان أي دين من الأديان لم يظهر في أي مجتمع من المجتمعات لو لم يكن مهيأ لتقبله ثقافياً ومستعداَ لإدخال العنصر الديني , كعنصر مكمل ومتناسق , مع العناصر المكونة للبنية الثقافية , ولا يتم التكامل والتناسق إلا بعد فترة مخاض يتم خلالها استبدال عناصر ثقافية بعناصر أخرى يكون العنصر الديني السبب الرئيسي في أبدالها أو تغييرها , فالدين هنا يُنظر اليه من موقع السوسيولوجيا , فهي أقرب الى علم اجتماع الديني (سوسيولوجيا الدين) التي تبحث في الدين من زاوية علاقته بالمجتمع وتأثيره فيه وتأثره أيضاً . ( )
ان ابرز من عني بهذا الجانب وأقدمهم هو الأستاذ اميل دوركهايم الذي أعتقد بأن النظم الدينية البدائية خصوصاً تلك التي تعتمد على مفهوم (الطوطم) , تعبر عن تلاحم وتضامن الجماعات , وأمتد تأثير الأستاذ دوركهايم الى بحوث الكثيرين الذين اعقبوه , ومن هؤلاء الأستاذ راد كلف براون الذي بحث موضوع الأديان من زاوية التركيب أو البناء الإجتماعي , فالأديان في اعتقاده ترتبط بباقي مؤسسات المجتمع في وحدة عضوية بنائية لا تقبل التجزئة , وأوضح ان هذا التوكيد يغفل أهمية الفرد وأدواره في مجمل الحياة الروحية وآثار العقائد في الواقع الذهني والعاطفي للأفراد , ويركز براون في بحوثه على التحريمات الروحية خصوصاً الجانب الطقوسي منها أو ما يسمى (بالتحريم الطقوسي) ويقصد به القاعدة السلوكية التي تقترن بأن خرق أي انسان لها يسبب تحولاً ضاراً وخطير في مكانة الفاعل الروحية , مما يترتب عليه احتمال تعرضه الى بعض الشرور , ولتجنب هذا الإحتمال يعتقد الناس في هذه الجماعات في ضرورة اجراء بعض الطقوس للتكفير عن فعل تم ارتكابه , وبهذا يمكن تطهير الفرد المارق واعادته في مكانته الطقوسية السوية . ( )
ان الإعتقاد الديني والمؤسسات الدينية تخدم من الحاجات الفردية والمجتمعية الكثير , ونحن لا نستطيع أن نقدم قائمة عامة بوظائف الدين , لان هذه الوظائف تختلف تبعاً للبناء الإجتماعي , وثقافة المجتمع , وخصائص الدين نفسه وبصفة عامة يمكن أن نحدد ثلاث أشكال من الوظائف التي يقدمها الدين وهي :
وظيفة المعنى . Meaning or Individual Functions
الوظيفة الذاتية . Identity Functions
الوظيفة البنائية .Structural Functions
أولاً / وظيفة المعنى أو الفردية :
يمد الدين الأفراد بنظرة معينة للعالم والكون التي بواسطتها ينظر الى عدم العدالة والمعاناة والموت على انهما معانٍ مطلقة , وقد عبر غيرتز بقوله ( عندما يكون للموت أو المعاناة معنى , فإنها تصبح شيئاً يمكن معاناته , وعبر نيتشه بالمعنى نفسه في قوله الذي عنده معنى (لماذا) يعيش فإنه يتحمل غالباً (كيف)) , ولكي تواجه وظيفة المعنى يجب ان يشمل الدين على الأشياء أكثر من مجموعة أفكار , أو آراء عن العالم , فالأنساق الفكرية الفلسفية التجريدية نادراً ما تشبع هذه الوظيفة عند جموع الأفراد , فالمعنى يشتمل على كل من المفاهيم (الأفكار) والمطالب (الأوامر) , فصورة العالم يجب أن تقدم للمعتقدين بطريقة يبدو فيها أن الفرد ملزم ومقيد بالمعتقد , وليس موقفه اختيارياً أو تطوعياً بالنسبة لتمسكه بالمعتقد (الشيء الذي يعتقده) , وحين يؤثر الدين على أنماط الفكر فإن قبول العالم الديني لا يرتكز على المجالات المنطقية فقط , فإنساق الفكر الفلسفية قد تمد الأفراد بصورة العالم , ولكنها لا تتجه الى عواطف الأفراد , ولا تجعلهم يشعرون بأنهم مسيرون وملزمون ومقيدون بنسق الإعتقاد , فلا يوجد شيئاً يربطهم عاطفياً بالمعتقد , فليس هناك مطالب أو فروض من قبل المعتقد , ان عملية اتصال , وارتباط المفاهيم خلال أنساق الطقوس والرموز تتضمن كلاً من الأبعاد التأثيرية والإدراكية . ( )
ثانياً / الوظيفة الذاتية أو الإنتمائية :
من أهم الوظائف التي يقدمها الدين لمعتنقيه هي وظيفة الإحساس بالذاتية , وقد أشار (أندرو جريلي) الى شدة التعصب الطائفي في الولايات المتحدة يرجع الى الدين وخاصة الى الوظيفة الذاتية وما لعبته في حياة المهاجرين الى الولايات المتحدة , فقد كان هناك الكثير من الإيطاليين الكاثوليك درجة إنتمائهم الى دينهم ضعيفة قبل هجرتهم الى أمريكا , ولكن بإقامتهم في بيئة جديدة بقيم مختلفة ومعايير مغايرة أصبحوا يتوحدون بشدة مع الكنيسة الكاثوليكية , وكذلك كثير من الأديرة الإيطالية تحولت الى تجمعات محلية مركزية مهمتها مساعدة أعضائها على الإحتفاظ بإحساسهم بأصولهم , وبالمثل أظهرت جماعات مهاجرة أخرى مزيداً من التعصب الطائفي والولاء والتدين بعد قدومها الى أمريكا
, فالطائفية الدينية أصبحت مصدراً للذاتية وعاملاً للإستقرار الثقافي لمن هم يواجهون نقلة ثقافية , وقد أشار الكنسي التأريخي مارتن ماري الى ان التعصب الديني في الولايات المتحدة لا يفهم إلا في ضوء الأجناس , والشعور بالإنتماء الديني دائماً يؤثر على فهم الفرد (من هو ؟ وماذا يكون ) , فإحساس الفرد بأنه ينتمي الى دين ما يجعله يمتنع عن القيام ببعض السلوكيات مثل امتناع المسلم عن شرب الخمر في بعض المجالس التي تقدم فيها , وذلك نظراً لإحساسه بذاتيته كمسلم وإنتمائه للدين الإسلامي , وقد أشار كثير من علماء الإجتماع الديني أن أهم أسباب ظهور الفرق الدينية في أمريكا يرجع الى فشل الطائفة الدينية أن تقابل الحاجات الذاتية عند أفرادها , فالدراسات التي تمت الفرق الدينية وعلى كثير من جماعات الكومنيون والجماعات اليوتوبية , أن أعضائها يشيدون بمشاعر الإنتماء والإنتساب إليها , فالتعصب الطائفي يرجع الى القصور في روابط التداخل الشخصي , وقد أشار جريلي الى أنه ربما تكون وظائف المعنى أساسية وأولية (لأن هناك شعوراً بأنها مرتبطة بالغرض الظاهر للدين) , فإنه في الحقيقة وظيفة الإنتماء سابقة على وظيفة المعنى في ضوء مصطلحات الكرونولوجي . ( )
ثالثاً / الوظيفة البنائية :
ركز اميل دوركهايم على ما يسهم به الدين في تحديد ذاتية الأفراد , وتقوية ذاتية المجموع , فالدين يقوي ذاتية الجماعة فهو يقدم تفسيراً لمعنى الجماعة وسط العالم المحيط به , وقد شبه دوركهايم الدين بأنه نوع من الغراء لربط الأفراد وتماسك بعضهم ببعض برغم ما يوجد بينهم من اختلاف في الإهتمامات , كما أنه يساعد الأفراد على الوعي بأنفسهم كمجتمع أخلاقي يسوده قيم عامة , ورسالة عامة للحياة , ويقوم الدين بهذه الوظيفة التي تتضمن توحيد الأفراد ومعرفتهم لذواتهم بصورة واضحة في المجتمعات المتجانسة , أما المجتمعات المعقدة فالدين لا يستطيع ان يقوم بهذه الوظيفة لأن تعدد المذاهب الدينية في هذه المجتمعات , وعدم وجود دين واحد غالب يعوق قيام الدين بهذه الوظيفة , كما أنه يؤدي الى ظهور أشكال بديلة للدين التقليدي , والشيء الهام الذي يجب ان نقرره أن الدين يخدم غالباً كأساس للذاتية الجمعية , فهو يعمل على تحقيق الإستقرار عن طريق إضفاء القدسية على معايير وقيم المجتمع , ففي المجتمعات بسيطة التكوين حيث يختفي الضبط الرسمي وتسود الضوابط الدينية تلعب المحرمات الدينية دوراً هاماً فلأفراد تبتعد عن السلوك المحرم وتخشى نتائج وتبعات كسر التابو , فالأسكيمو يعتقدون في السِيدنا (اله البحر الذي يحتم الفشل والنجاح في الصيد) , ولذلك فهم ملتزمون بقواعد السِيدنا ويحرصون على عدم خرقها , ومن هنا فالأسكيمو لا يصيد إلا ما يحتاج اليه فقط , فالإسراف في الصيد شيء لا يفكر فيه الأسكيمو لأنه يتعارض مع قواعد السيدنا , هذا الموقف الأخلاقي المحافظ هو وظيفي لمجتمع الأسكيمو وقوته مستمدة من الدين وليس من الجزاءات التشريعية , وقد تعمل المحرمات الدينية على تدعيم التدرج الإجتماعي , فهناك بعض المحرمات والقواعد الدينية يسمح بممارستها لأفراد معينين فقط داخل المجتمع وهذا يؤثر ويحدد دور الفرد داخل المجتمع , والدين يُرسي المعايير التي تفيد البناء , ويخلق إلتزامات أخلاقية مرجعها تلك القيم والمعايير القوية التي يدعمها الدين , التي هي وظيفية
بالنسبة للبناء فحين تكون معوقة وظيفياً بالنسبة للأفراد , لذلك تنطوي معظم الأديان على عمليات طقوسية للتطهير (أي تطهر الفرد من خطاياه) وهذه العمليات الطقوسية تقلل من الصراع بين وظائف الفرد والوظائف المجتمعية , ومن أبرز وظائف الدين المجتمعية وظيفته كأداة للتغير فبرغم ان البنائية الوظيفية غالباً ما تركز على وظيفة الدين في تدعيم الإستقرار داخل المجتمع , فإنها تعني كذلك بتوضيح كيف ان الدين يكون أداة للتغير , وهذا يبدو في دور الأنبياء والرسل , فجميع الرسالات السماوية تدعو الى العدالة الإجتماعية , وجميع الديانات دائماً في نصرة الطبقات المستضعفة وتدعو الى التغير داخل النسق الإجتماعي , وقد علق السياسي الثوري ليبست على دور الدين في التغير بقوله : بأن الدين والحركات السياسية قد تكون بدائل لبعضها البعض , فالتغير ليس وظيفياً للأفراد المستبعدين فقط , بل أيضاً للبناء الإجتماعي كله . ( )
نلخص من ذلك كله الى ان الدين موجود في كل حضارة على الرغم من اختلافه من واحدة الى أخرى عقيدة وتطبيقاً لأنه يُعين الذين يعتنقونه على تفسير الأحداث المعقدة والغامضة التي يواجهونها ويخلق تماسكاً اجتماعياً قوياً بينهم ويُمكنهم من ان يميزوا بين الصح والخطأ من وجهة نظرهم في أعمالهم . ( )
وثمة وظائف اخرى يؤديها الدين للأفراد والجماعات وهي :
1- للدين دور كبير في تنظيم الحياة الإنفعالية والعاطفية التي يعيشها الإنسان لا سيما وقت تعرضه للتحديات والأزمات والنكبات و الأخطار كالحروب والفيضانات والزلازل والبراكين والمجاعات وموت المقربين اليه لسبب أو لآخر .
2- يساعد الدين على تحقيق الوحدة الفكرية والعقلية والعقائدية والكفاحية بين الأفراد الذين يؤمنون به .
3- من الوظائف الإجتماعية الأخرى للدين انه ينظم الحياة الإجتماعية في المجتمعات المحلية .
4- يُعد الدين وسيلة مهمة من وسائل الضبط الإجتماعي ذلك ان الدين يُرشد الأفراد الى السير في الطريق السوي ويقيه من الشذوذ والإنحراف والجريمة .
5- يهذب الدين شخصية الفرد ويجعلها قادرة على أداء دورها في المجتمع .
6- يحل الدين بعض المشكلات أو الصعوبات التي يعاني منها الأفراد في اللقاءات الطقوسية والعبادية التي يؤديها الأفراد بشكل جماعي .
7- يزود الدين المجتمع بالقيم الفاضلة التي تساعده على النمو والبناء والتطور .
وفي رأي ماكس فيبر ان وظيفة الدين الرئيسة هي ارضاء الحاجة الإنسانية العميقة لإخفاء بعض المعاني على الكون , فبعض هذه المعاني أو ما يسمى بالعقلانية الدينية نتيجة تصنعها جهود طبقة المفكرين . ( )
الفصل الثالث / نشأة الدين وتطوره The Raise and Development of Religion
المبحث الأول / نظريات حول نشأة الأديان
من المعروف لدينا في إن علم نشأة الدين أو ما يعرف بعلم الإجتماع الديني هو علم حديث نسبياً فهو لم يبدأ إلا في القرن التاسع عشر , وكان أوائل العلماء الذين بحثوا في نشأة الدين السير جيمس فريزر و إدوارد تايلر و إميل دوركهايم و مالينوفسكي و بروان و ماركس و فيبر وغيرهم من علماء الإجتماع والأنثروبولوجيا .
ان تأخر دراسة الظاهرة الدينية يرجع الى ارتباط الدين بالجانب العقائدي من حياة الناس مما يجعله محاطاً بسياج من الرهبة والقدسية التي تدعو الى الحذر والتردد في معالجة قضاياه ومواضيعه الحساسة .
ومع ظهور المجتمعات البشرية , وازدياد اعتمادها على الطبيعة ومحاولة التحكم بها خاصة عند المجتمعات الزراعية البدائية , وبإزدياد تأثير الظواهر الطبيعية على تركيبة هذه المجتمعات وطرق انتاجها لحاجاتها البشرية , بقيت المجتمعات البشرية غير قادرة على التحكم بأساليب حياتهم ومعيشتهم , فبدأ الإنسان ضعيفاً عاجزاً أمام قوى الطبيعة العاتية , فظهر الدين أو ما يعرف بالفكر الديني , حيث أخذ البشر بالإعتقاد بوجود كائنات أو قوى غيبية تعيش في أماكن بعيدة تتحكم بمصير المجتمعات البشرية , فكان لابد من استرضاء هذه القوى او الكائنات وتقديم الطاعة والولاء والقرابين لتحميهم وتمنع الأخطار عنهم , وبهذا ظهر ما يعرف بالدين أو الفكر الديني .
وترجع أسباب دراسة الأديان الى دخول أوروبا عصر التنوير في القرن الثامن عشر , وعمّت العقلانية جميع أوساط , فشن العلماء الطبيعيون حرباً ضد الكنيسة وأدرك العلماء في ذلك العصر ان المنهج الذي يطبقه العلماء الطبيعيون يمكن تطبيقه على العلوم الإنسانية , وقد ساعد على ذلك ان العلوم الطبيعية قد بدأت تتقدم بسرعة مذهلة , واجتاحت الثورة الصناعية أوروبا , ونشأت الحركات الإستعمارية لتغذية الصناعة بالمواد الخام , ومع الإستعمار انتقل الكثير من الأوروبيين للعيش في أفريقيا وأسيا وتعايشوا مع الناس غير مسيحيين , بل ودرسوا تأريخ إيران والشرق الأقصى بدياناته المتعددة , والحضارة المصرية القديمة , وقد قاموا بمقارنة ما وصلوا اليه من بما جاء بالتوراة , فوجدوا اختلافاً كثيراً أدى الى ظهور النقد اللاذع للتوراة , بل والكتاب المقدس ككل , فتدخلت الكنيسة لتوقف هذا النقد اللاذع , ولتخرج من الحرج الذي وقعت فيه , فقام كثير من أتباعها من العلماء بتبني نظرية دارون في التطور وطبقوها على الأديان بمقولة ان المظاهر الدينية التي يتمتع بها الهمج أو المسلمون أو غيرهم تعتبر بداية سابقة للتطور الديني المسيحي الأوربي , غير ان هؤلاء المفكرين من أتباع الكنيسة أغفلوا أو تغافلوا عن حقيقة مهمة , وهي ان نظرية التطور بالرغم مما وجه اليها من النقد كان مجالها علم البيولوجيا وليس مجال الدين هذا من جهة , ومن جهة أخرى فإن القول بان الدين ظاهرة تخضع للتطور وان الأديان الأخرى غير المسيحية حلقة في سلم التطور امر يناقض العقل فلماذا تطور الأوربيون الى المسيحية ولم يتطور غيرهم بالرغم من التعاصر الزمني بين الفريقين , وكانت البدايات الأولى مع تحديد ماهية الدين وكنيته , ورغم اخ
4- الوحدانية : وهي معتقد يقوم على أساس ان هناك إلهاً يسمو وجوده عن الآلهة الأخرى القائمة , ومن ثم تتحتم عبادته قبلها جميعاً , ومعتقد الوحدانية يختلف عن عقيدة التوحيد التي لا تعترف إلا بإله واحد يُعبد وحسب .
5- التدين : ويعني الإهتمام بالأنشطة الدينية والمشاركة فيها , ويعني أيضاً مجموع انماط السلوك و الإتجاهات التي يحكمُ عليها الفرد بإعتبارها دينية في جماعة أو مجتمع معين
6- التطرف الديني : هو نتاج التعطش الديني والتوجه الخاطئ لدى الشباب , وكذلك حالة الفراغ والضياع الديني في كافة المجتمعات , ونتيجة الفشل التكنولوجي وحدها بأن تكون هدفاً للحياة الإجتماعية , وفشل الثقافة المادية في أن تقدم المحراب البديل عن المسجد والكنيسة والمعبد , والمتطرفون هؤلاء من جميع الأديان ليسوا في الواقع دين سوى دين أنفسهم , فهم عابدون لذواتهم وتصوراتهم الشخصية وليس لله الواحد الداعي الى التواضع والمسالمة .
7- الشعائر والطقوس : والشعيرة هي تعبير عن المشاعر المشتركة والاتجاهات, من خلال أفعال وممارسات منظمة رسمياً بدرجات متفاوتة. كذلك قد تتضمن بعض التوجيهات نحو موضوعات واقعية أو غير واقعية قادرة على إظهار اتجاهات الولاء والأقدام. ومعنى ذلك إن الاحتفالات الشعائرية هي صور سلوكية تعبر عن عواطف معينة نحو موقف اجتماعي, وتستهدف تدعيم روابط التضامن بين الأشخاص المشاركين فيها( ). وتعد الشعيرة طريقة من طرائق السلوك الرسمية التي تعبر تعبيراً رمزياً عن أهمية حادثة معينة أو مناسبة أو عقيدة ما( ). أما الطقوس هي قواعد السلوك التي تقرر كيفية التعرف مع الأشياء المقدمة, هذا ما كتبه (أميل دوركهايم) أذا يعتبر شأنه شأن (مارسيل موس) أن الطقس الديني بامتياز هو الأضحية التي تتيح تواصل أنساني مع اله أو مع الأجزاء بواسطة موضوع ما. ومع ذلك تظل وظيفة الطقوس وظيفة اجتماعية : فالطقس برأي دوركهايم هو إسقاط يقوم به المجتمع, وتقوم قوة الطقس على خلق جماعة أخلاقية فكرية وعاطفية في آن واحد( ) . والطقوس كما يعرفها علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي مجموعة حركات سلوكية متكررة يتفق عليها أبناء المجتمع وتكون على أنواع وأشكال مختلفة تتناسب والغاية التي دفعت الفاعل الاجتماعي أو الجماعة للقيام بها .( ) والطقس هو فعالية تنجز على وفق طريقة يرسمها العرف الحضاري وهي ترمي إلى استشارة عطف الإلهة أو تجنب غضبهم( ).
8- الطائفة الدينية : وهي جماعة تقوم على أساس الإشتراك في عقيدة أو مذهب ديني مستمد من تلك العقيدة , ولذلك فهي جماعة متماسك , فالعضوية فيها تكون تطوعية أكثر منها الزامية .
وقد تباينت وجهات نظر الفلاسفة والعلماء حول تحديد مفهوم الدين , فكلاً يراها حسب اتجاهاته الفكرية واختصاصه العلمية , ومن وجهات النظر هذه ما يلي :
1- الفكر الفلسفي :
حيث حاول أصحاب هذا الإتجاه من المفكرين والفلاسفة الربط بين الفلسفة والدين أو بين العقل والإيمان , حيث يرى الفيلسوف (ديكارت) في كتابه مبادئ الفلسفة انه من واجبنا أن نتخذ لنا قاعدة معصومة , أن ما أوحى به الله هو أوثق بكثير من كل ما عداه , وفي كتابه مقالة عن المنهج يقول انه ينبغي لنا ألا نقبل شيئاً على انه حق ما لم نتبين ببداهة العقل انه كذلك . ( ) , أما الفيلسوف (كانت) , فيرى أن الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية سامية . ( ) , ويرى هيجل أن الدين فن باطني يصور لنا الحقيقة الإلهية من الداخل عن طريق الشعور الباطني . ( ) , ويرى القديس (انسالم) ان العقيدة ليست سوى قوة يستعين بها العقل من اجل فهم حقائق الكون فهماً عقلياً , أما القديس (توما الإكويني) , فأنه يذهب الى ان العقل والوحي وسيلتان من وسائل المعرفة , وهما قد صدرا من أصل واحد مشترك , فإن الله هو الذي أودع العقل في الإنسان وهو الذي أعلن للناس حقائق الوحي , في حين ان القديس (اوغسطين) عبر عن رأيه في عباراته الشائعة التي قال فيها العقل يسبق الإيمان , والإيمان يسبق العقل وأنا أؤمن لكي أتعقل . ( ) , ويعرف (شلاير ماخر) ان الدين هو خضوعنا لوجود لا يناله ادراكنا , أو انه خضوع الإنسان الى موجود أسمى منه . ( )
2- الفكر الإجتماعي :
يرى كل من (ماكيفر) و (شارل بيج) ان الدين علاقة لا تقوم بين انسان وانسان آخر فحسب , ولكن هو علاقة بين الإنسان وقوة أعلى منه , أما شاتل فيرى ان الدين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق . ( )
ومن وجهة نظر (فريزر) , فالدين يبدأ بظهور فكرة الآلهة , أو على الأكثر تقدير بظهور فكرة أرواح الأفراد أو أرواح الطبيعة التي يتخيلها المرء على غرار أرواح البشر , أو أن الدين يبدأ بظهور فكرة الآلهة وعلى الأقل بظهور النفوس الفردية ونفوس الموت والقرائن الطبيعية في شكل آدميين . ( )
أما (دوركهايم) فيرى ان الدين هو عبارة عن مجموعة متماسكة من العقائد والعبادات المتصلة بالعالم المقدس والتي تنظم سلوك الإنسان حيال هذا العالم , بحيث تؤلف هذه المجموعة وحدة دينية تنظم كل من يؤمنون بها , أو انه مجموعة متماسكة من العقائد والعبادات المتصلة بالأشياء المقدسة مميزة وناهية بحيث تؤلف هذه المجموعة وحدة دينية متصلة بكل من يؤمنون , أو ان الأمور الدينية هي أمور قدسية . ( )
ومن وجهة نظر (جويوه) التي تبناها في كتابه (لا دينية للمستقبل) , فإن الدين هي تصور المجموعة العالمية بصورة الجماعة الإنسانية والشعور الديني هو الشعور بتبعيتنا لمشيئات أخرى يركزها الإنسان البدائي في الكون , أما (ميشيل مايير) في كتابه (تعاليم خلقية ودينية) يقدم لنا تعريفاً يقول فيه ان الدين هو جملة العقائد والوصايا التي يجب ان توجهنا في سلوكنا مع الله ومع الناس وفي حق انفسنا , ويرى (سلفان ببريسيه) في كتابه (العلم والديانات) بأن الدين هو الجانب المثالي في الحياة الإنسانية , وفي كتاب (التأريخ العام للديانات) (لسالومون ريناك) يقول فيه ان الدين هو مجموعة التورعات التي تقف حاجزاً امام الحرية المطلقة لتصرفاتنا . ( )
3- الفكر النفسي :
ومن ممثلي هذا الإتجاه (كوستاف لوبون) , حيث يرى ان اعتقاد الجماعات يصطبغ بصبغة خاصة عبر عنها بالشعور الديني , ولهذا الشعور مميزات بسيطة للغاية كعبادة (ذات) يتوهم انها فوق الذوات والخوف من القوة التي يبطن بها والخضوع الأعمى لأوامرها واستحالة البحث في تعاليمها والرغبة في نشرها والنزوع الى معاداة من لا يقول بها , ومتى تكيف الشعور بهذه الصفة فهو من طبيعة الشعور الديني . ( )
ويرى (برجسون) فيما أشار اليه بالدين الديناميكي أو المتطور , بأن الدين من خلق انسان من صفوة البشر أو من نخبة الناس سما الى فكرة مثالية , وحاول أن ينبثق من أعماقه دين أو فكرة تفيض على الإنسانية كلها , وقد حقق بعض كمال الخلق من أمثال المسيح فكرة هذا الدين . ( ) ويعرف ريفييل بأن الدين تحقيق الحياة الإنسانية بواسطة الإحساس بأن رباطاً يصل الروح الإنسانية بالنفس الخفية التي تعترف الأولى بما لها من سلطان على العالم وعليها والتي يجب ان تكون شاعرة بالإتصال بها دائماً , حيث يرى ان الدين هو ان تأسس الحياة على الإحساس برابطة تضم الروح البشرية مع الروح الخفية التي تُدرك سيطرتها على العالم وعلى الروح البشرية نفسها وتحب تلك الأرواح الخفية بعاطفة واحدة .( )
ويعرف فويرباخ بأن الدين هو الغريزة التي تدفعنا نحو السعادة . ( )
4- الفكر الإحيائي :
ومن أهم أصحاب هذا الفكر (هربرت سبنسر) , الذي يرى بأن الدين هو الشعور بأننا نسبح في خضم من الأسرار , أو هو الإحساس الذي نشعر به حينما نغوص في بحر من الأسرار , وكذلك يرى (ماكس مولر) ان الدين هو الشعور اللانهائي , أو انه احساسنا باللامتناهي . ( ) , ويرى (تايلور) الدين بأنه الإعتقاد في الكائنات الروحية أو الإعتقادات في الموجودات الروحية . ( )
وبالرغم من تعدد المنطلقات الفكرية واختلافات وجهات النظر في تناول ومعالجة الظاهرة الدينية , فإن هناك شبه اجماع من جانب العلماء على تقسيم تعريفات الدين الى ثلاث فئات رئيسية وهي كالآتي :
• تعريفات متعلقة بجوهر الدين .Substantive Definitions
• التعريف الوظيفي .Functional Definition
• التعريف الرمزي . Symbolic Definition
1- التعريفات المتعلقة بجوهر الدين :
لتحديد جوهر الدين مداخل مختلفة , فمن العلماء من اتخذ الإعتقاد مدخلاً لتحديد جوهر الدين , وقد استخدم تايلور هذا الإتجاه منذ عام 1873عندما حدد الدين بأنه ( الاعتقاد بالكائنات الروحية ) , فنحن مرجعنا إله او آلهة وهذا هو العامل الأساسي في الدين , ويرجع استخدام تايلور لمفهوم الكائنات الروحية الى ان المجتمعات غير المتحضرة كان افرادها يؤمنون ويخشون أسلافهم الموتى , فإعتقادهم في الكائنات غير المرئية كان يفوق اعتقادهم في الإله , لذلك نظر تايلور الى ان الكائنات الروحية هي مفهوم اساسي عند البدائي , وكثير من الاجتماعيين المحدثين يؤيدون رأى تايلور في تأكيده على ان الدين ينطوي على الإعتقاد في كائن او كائنات لم تحس عن طريق العمليات الواقعية الطبيعية , في حين اشار ر . ماريت الى ان الدين في كثير من الثقافات حركة اكثر منه فكر , اي ان الطقوس والعواطف تحتل المركز الأول في الدين ثم يليها الإعتقاد , وقد أكد بعض الباحثين ان القول بأن الإعتقاد هو شيء أساسي في الدين أدى بكثير من الأنثروبولوجيين الى ان يفقدوا الوصول الى حقيقة جوهر الديانات غير الغربية , ويرى دوركهايم ان كل تجارب التقديس والشعور بالخشية من المقدس تكون دينية لذلك فالدين في رأيه هو نسق موحد من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء مقدسة هذه الأشياء تمثل مجموعة من الأوامر والنواهي .( )
2- التعريف الوظيفي :
قدم ميلتون ينجر تعريفاً شاملاً , حيث يرى أن التركيز يجب أن ينصب على ماذا يفعل الدين , اي على الجانب الوظيفي للدين , وقد تأثر ينجر في تعريفه للدين بماكس فيبر الذي يرى ان الدين حاجة اساسية انسانية رغم تفاوت طبيعة وشدة هذه الحاجة عند مختلف الأفراد , وكذلك تأثر برجل الدين بول تليش في وصفه للدين بأنه الإهتمام المطلق هو فهم الغرض من الحياة والمعاناة والشر والظلم , من هذه المنطلقات حدد ينجر الدين بأنه نسق من المعتقدات والممارسات التي بواسطتها يكافح جماعة الأفراد المشكلات المطلقة للحياة الإنسانية , وبذلك فوظيفة الدين تتمثل في انه يقدم للأفراد التفسير لمشكلاتهم الحياتية ويمدهم بإستراتيجية لقهر اليأس والشعور بالإحباط , ويؤكد ينجر كغيره من الإجتماعيين على أن الدين هو ظاهرة اجتماعية , فهو يعايش ويكسب كثيراً من جوانب معايشته في تفاعل الجماعة , فالعبادة المنفردة قد تحمل أنماط من المعنى ربما يكون لها جوانب تدين إلا أنها ليست ديناً , وهذا ما عبر عنه ينجر على أن أي نسق اعتقاد وفعل يفشل في تفسير التساؤلات المتعلقة بالحياة فهو ليس دين . ( )
3- التعريف الرمزي :
لقد وضع غيرتزC. Geertz تعريفاً رمزياً للدين والذي ينطوي على ما يفعله الدين , ولما كانت سهلة الملاحظة فقد جعلها نقطة البدء في تعريفه للدين , والرموز قوة جبارة في السلوك الإنساني وهي مركز الدين , والرموز تشتمل على أشياء مثل (الصليب , المصحف , نجمة داود) , وعلى سلوك مثل (السجود , والركوع , اللمس , التقبيل) وعلى قصص أيضاً , وليست كل الرموز دينية , فهناك رموز (التصافح , الإشارة باليد) فهي تعتبر سلوكيات رمزية , واعتبر غيرتز الرموز الدينية على أنها شكل من أشكال المقدس , وقد ميز بين نوعين من الرموز وهي الرموز الكبرى Macro_ symbolic والرموز الصغرى Micro_ symbolic وعلاقتها بالرموز الدينية , فالرموز الكبرى وما تتضمنه من رموز تساعد الفرد في تفسير معنى الحياة وما تنطوي عليه من نظرة كونية أو عالمية , أما الرموز الصغرى فهي تتضمن رموزاً غير دينية , رموز تمس التفاعل اليومي وجوانب الإتصال والتعاون , وهذا الشكل من الرموز لا يفسر الغرض من الحياة ولا يقترح قيماً واعتقادات .
وقد حدد غيرتز الدين في كلماته الآتية :
الدين يكوّن :
- نسق من الرموز تتفاعل .
- تنشأ حالات نفسية قوية ودوافع في الأفراد بواسطة .
- صياغة مفاهيم عن النظام العام للوجود .
- تغليف هذه المفاهيم بهالة من الواقعية .
- حيث تبدو الأمزجة أي الحالات النفسية والدوافع حقيقية وفريدة .
وبالرغم من طول تعريف غيرتز للدين فإن تعريفه قدم اسهاماً حول تميز الدين عن مختلف الظواهر الثقافية , ولكن الإسهام الحقيقي تمثل في انه ذهب الى أن الدين لابد وأن يشتمل على نسق كبير من الرموز التي تتفاعل لتقوي وتدعم النظرة الى العالم وروح الجماعة , فتعريف غيرتز هو مقال في كيف يعمل الدين على تدعيم نفسه ؟ وماذا يفعل الدين في المجتمع ؟ ولذلك فإن التعريف الرمزي يمكن أن يُعالج على أنه نمط من التعريف الوظيفي .( )
نستخلص من التعريفات الدين السابقة انها تكون واحدة من نمطين :
التعريفات الجوهرية (التي تركز على أساس وجوهر الدين) أو التعريفات الوظيفية (التي تركز على ما يفعله الدين)
التعريفات الجوهرية تركز على اعتقاد المحدد مثل :
الاعتقاد في الكائنات فوق الطبيعية وتركز على التفرقة بين المقدس والعلماني فهي تصب على الاشكال التقليدية للتدين .
أما التعريفات الوظيفية , فتعرف الدين على انه الشيء الذي يمدنا بالشعور بالمعنى المطلق , نسق من الرموز الكبرى , مجموعة من القيم الأساسية للحياة . ( )
ويشير البعض الى ان هناك ثلاث معاني يستخدم لفظ الدين للدلالة عليها وهي :
المعنى الاول : يشير الى النصوص المكتوبة والمقدسة لدى الأديان .
المعنى الثاني : ويراد منه الآراء والنظريات والعقائد التي ترجع الى أكثر من حقل معرفي , ولا تنتمي جميعها لحقل معرفي واحد , فبعضها فقه , وبعضها أخلاق , وبعضها إلهيات بالمعنى الأخص (اي علم الكلام) , وبعضها عرفان , وبعضها فلسفة , حتى أن بعضها يشمل الآراء والنظريات الوضعية , كالتأريخ والجغرافيا . ( )
المبحث الثاني / وظائف الدين
الدين ينظر اليه كظاهرة اجتماعية , وجد أساساً لخدمة الإنسان , طالما ان الإنسان موجود قبل أي دين , بل هو الذي أوجد الدين , الدين على هذا الأساس ظاهرة اجتماعية , فهو إذن احد عناصر المشكلة للبنية الثقافية المنتمية الى مجتمع ما , وهو عنصر ثقافي رئيسي , لا مجتمع بلا ثقافة , ولا مجتمع بالتالي بالا دين , أي بلا نظرة جلية الى الكون والحياة والى ما وراء الحياة , فلا يمكن تصور مجتمع في خواء روحي أو فراغ ديني , وعليه فإن الدين يشكل جزءاً من تفكير الإنسان – المجتمع , وبالتالي جزءاً من الثقافة المجتمعية , ان أي دين من الأديان لم يظهر في أي مجتمع من المجتمعات لو لم يكن مهيأ لتقبله ثقافياً ومستعداَ لإدخال العنصر الديني , كعنصر مكمل ومتناسق , مع العناصر المكونة للبنية الثقافية , ولا يتم التكامل والتناسق إلا بعد فترة مخاض يتم خلالها استبدال عناصر ثقافية بعناصر أخرى يكون العنصر الديني السبب الرئيسي في أبدالها أو تغييرها , فالدين هنا يُنظر اليه من موقع السوسيولوجيا , فهي أقرب الى علم اجتماع الديني (سوسيولوجيا الدين) التي تبحث في الدين من زاوية علاقته بالمجتمع وتأثيره فيه وتأثره أيضاً . ( )
ان ابرز من عني بهذا الجانب وأقدمهم هو الأستاذ اميل دوركهايم الذي أعتقد بأن النظم الدينية البدائية خصوصاً تلك التي تعتمد على مفهوم (الطوطم) , تعبر عن تلاحم وتضامن الجماعات , وأمتد تأثير الأستاذ دوركهايم الى بحوث الكثيرين الذين اعقبوه , ومن هؤلاء الأستاذ راد كلف براون الذي بحث موضوع الأديان من زاوية التركيب أو البناء الإجتماعي , فالأديان في اعتقاده ترتبط بباقي مؤسسات المجتمع في وحدة عضوية بنائية لا تقبل التجزئة , وأوضح ان هذا التوكيد يغفل أهمية الفرد وأدواره في مجمل الحياة الروحية وآثار العقائد في الواقع الذهني والعاطفي للأفراد , ويركز براون في بحوثه على التحريمات الروحية خصوصاً الجانب الطقوسي منها أو ما يسمى (بالتحريم الطقوسي) ويقصد به القاعدة السلوكية التي تقترن بأن خرق أي انسان لها يسبب تحولاً ضاراً وخطير في مكانة الفاعل الروحية , مما يترتب عليه احتمال تعرضه الى بعض الشرور , ولتجنب هذا الإحتمال يعتقد الناس في هذه الجماعات في ضرورة اجراء بعض الطقوس للتكفير عن فعل تم ارتكابه , وبهذا يمكن تطهير الفرد المارق واعادته في مكانته الطقوسية السوية . ( )
ان الإعتقاد الديني والمؤسسات الدينية تخدم من الحاجات الفردية والمجتمعية الكثير , ونحن لا نستطيع أن نقدم قائمة عامة بوظائف الدين , لان هذه الوظائف تختلف تبعاً للبناء الإجتماعي , وثقافة المجتمع , وخصائص الدين نفسه وبصفة عامة يمكن أن نحدد ثلاث أشكال من الوظائف التي يقدمها الدين وهي :
وظيفة المعنى . Meaning or Individual Functions
الوظيفة الذاتية . Identity Functions
الوظيفة البنائية .Structural Functions
أولاً / وظيفة المعنى أو الفردية :
يمد الدين الأفراد بنظرة معينة للعالم والكون التي بواسطتها ينظر الى عدم العدالة والمعاناة والموت على انهما معانٍ مطلقة , وقد عبر غيرتز بقوله ( عندما يكون للموت أو المعاناة معنى , فإنها تصبح شيئاً يمكن معاناته , وعبر نيتشه بالمعنى نفسه في قوله الذي عنده معنى (لماذا) يعيش فإنه يتحمل غالباً (كيف)) , ولكي تواجه وظيفة المعنى يجب ان يشمل الدين على الأشياء أكثر من مجموعة أفكار , أو آراء عن العالم , فالأنساق الفكرية الفلسفية التجريدية نادراً ما تشبع هذه الوظيفة عند جموع الأفراد , فالمعنى يشتمل على كل من المفاهيم (الأفكار) والمطالب (الأوامر) , فصورة العالم يجب أن تقدم للمعتقدين بطريقة يبدو فيها أن الفرد ملزم ومقيد بالمعتقد , وليس موقفه اختيارياً أو تطوعياً بالنسبة لتمسكه بالمعتقد (الشيء الذي يعتقده) , وحين يؤثر الدين على أنماط الفكر فإن قبول العالم الديني لا يرتكز على المجالات المنطقية فقط , فإنساق الفكر الفلسفية قد تمد الأفراد بصورة العالم , ولكنها لا تتجه الى عواطف الأفراد , ولا تجعلهم يشعرون بأنهم مسيرون وملزمون ومقيدون بنسق الإعتقاد , فلا يوجد شيئاً يربطهم عاطفياً بالمعتقد , فليس هناك مطالب أو فروض من قبل المعتقد , ان عملية اتصال , وارتباط المفاهيم خلال أنساق الطقوس والرموز تتضمن كلاً من الأبعاد التأثيرية والإدراكية . ( )
ثانياً / الوظيفة الذاتية أو الإنتمائية :
من أهم الوظائف التي يقدمها الدين لمعتنقيه هي وظيفة الإحساس بالذاتية , وقد أشار (أندرو جريلي) الى شدة التعصب الطائفي في الولايات المتحدة يرجع الى الدين وخاصة الى الوظيفة الذاتية وما لعبته في حياة المهاجرين الى الولايات المتحدة , فقد كان هناك الكثير من الإيطاليين الكاثوليك درجة إنتمائهم الى دينهم ضعيفة قبل هجرتهم الى أمريكا , ولكن بإقامتهم في بيئة جديدة بقيم مختلفة ومعايير مغايرة أصبحوا يتوحدون بشدة مع الكنيسة الكاثوليكية , وكذلك كثير من الأديرة الإيطالية تحولت الى تجمعات محلية مركزية مهمتها مساعدة أعضائها على الإحتفاظ بإحساسهم بأصولهم , وبالمثل أظهرت جماعات مهاجرة أخرى مزيداً من التعصب الطائفي والولاء والتدين بعد قدومها الى أمريكا
, فالطائفية الدينية أصبحت مصدراً للذاتية وعاملاً للإستقرار الثقافي لمن هم يواجهون نقلة ثقافية , وقد أشار الكنسي التأريخي مارتن ماري الى ان التعصب الديني في الولايات المتحدة لا يفهم إلا في ضوء الأجناس , والشعور بالإنتماء الديني دائماً يؤثر على فهم الفرد (من هو ؟ وماذا يكون ) , فإحساس الفرد بأنه ينتمي الى دين ما يجعله يمتنع عن القيام ببعض السلوكيات مثل امتناع المسلم عن شرب الخمر في بعض المجالس التي تقدم فيها , وذلك نظراً لإحساسه بذاتيته كمسلم وإنتمائه للدين الإسلامي , وقد أشار كثير من علماء الإجتماع الديني أن أهم أسباب ظهور الفرق الدينية في أمريكا يرجع الى فشل الطائفة الدينية أن تقابل الحاجات الذاتية عند أفرادها , فالدراسات التي تمت الفرق الدينية وعلى كثير من جماعات الكومنيون والجماعات اليوتوبية , أن أعضائها يشيدون بمشاعر الإنتماء والإنتساب إليها , فالتعصب الطائفي يرجع الى القصور في روابط التداخل الشخصي , وقد أشار جريلي الى أنه ربما تكون وظائف المعنى أساسية وأولية (لأن هناك شعوراً بأنها مرتبطة بالغرض الظاهر للدين) , فإنه في الحقيقة وظيفة الإنتماء سابقة على وظيفة المعنى في ضوء مصطلحات الكرونولوجي . ( )
ثالثاً / الوظيفة البنائية :
ركز اميل دوركهايم على ما يسهم به الدين في تحديد ذاتية الأفراد , وتقوية ذاتية المجموع , فالدين يقوي ذاتية الجماعة فهو يقدم تفسيراً لمعنى الجماعة وسط العالم المحيط به , وقد شبه دوركهايم الدين بأنه نوع من الغراء لربط الأفراد وتماسك بعضهم ببعض برغم ما يوجد بينهم من اختلاف في الإهتمامات , كما أنه يساعد الأفراد على الوعي بأنفسهم كمجتمع أخلاقي يسوده قيم عامة , ورسالة عامة للحياة , ويقوم الدين بهذه الوظيفة التي تتضمن توحيد الأفراد ومعرفتهم لذواتهم بصورة واضحة في المجتمعات المتجانسة , أما المجتمعات المعقدة فالدين لا يستطيع ان يقوم بهذه الوظيفة لأن تعدد المذاهب الدينية في هذه المجتمعات , وعدم وجود دين واحد غالب يعوق قيام الدين بهذه الوظيفة , كما أنه يؤدي الى ظهور أشكال بديلة للدين التقليدي , والشيء الهام الذي يجب ان نقرره أن الدين يخدم غالباً كأساس للذاتية الجمعية , فهو يعمل على تحقيق الإستقرار عن طريق إضفاء القدسية على معايير وقيم المجتمع , ففي المجتمعات بسيطة التكوين حيث يختفي الضبط الرسمي وتسود الضوابط الدينية تلعب المحرمات الدينية دوراً هاماً فلأفراد تبتعد عن السلوك المحرم وتخشى نتائج وتبعات كسر التابو , فالأسكيمو يعتقدون في السِيدنا (اله البحر الذي يحتم الفشل والنجاح في الصيد) , ولذلك فهم ملتزمون بقواعد السِيدنا ويحرصون على عدم خرقها , ومن هنا فالأسكيمو لا يصيد إلا ما يحتاج اليه فقط , فالإسراف في الصيد شيء لا يفكر فيه الأسكيمو لأنه يتعارض مع قواعد السيدنا , هذا الموقف الأخلاقي المحافظ هو وظيفي لمجتمع الأسكيمو وقوته مستمدة من الدين وليس من الجزاءات التشريعية , وقد تعمل المحرمات الدينية على تدعيم التدرج الإجتماعي , فهناك بعض المحرمات والقواعد الدينية يسمح بممارستها لأفراد معينين فقط داخل المجتمع وهذا يؤثر ويحدد دور الفرد داخل المجتمع , والدين يُرسي المعايير التي تفيد البناء , ويخلق إلتزامات أخلاقية مرجعها تلك القيم والمعايير القوية التي يدعمها الدين , التي هي وظيفية
بالنسبة للبناء فحين تكون معوقة وظيفياً بالنسبة للأفراد , لذلك تنطوي معظم الأديان على عمليات طقوسية للتطهير (أي تطهر الفرد من خطاياه) وهذه العمليات الطقوسية تقلل من الصراع بين وظائف الفرد والوظائف المجتمعية , ومن أبرز وظائف الدين المجتمعية وظيفته كأداة للتغير فبرغم ان البنائية الوظيفية غالباً ما تركز على وظيفة الدين في تدعيم الإستقرار داخل المجتمع , فإنها تعني كذلك بتوضيح كيف ان الدين يكون أداة للتغير , وهذا يبدو في دور الأنبياء والرسل , فجميع الرسالات السماوية تدعو الى العدالة الإجتماعية , وجميع الديانات دائماً في نصرة الطبقات المستضعفة وتدعو الى التغير داخل النسق الإجتماعي , وقد علق السياسي الثوري ليبست على دور الدين في التغير بقوله : بأن الدين والحركات السياسية قد تكون بدائل لبعضها البعض , فالتغير ليس وظيفياً للأفراد المستبعدين فقط , بل أيضاً للبناء الإجتماعي كله . ( )
نلخص من ذلك كله الى ان الدين موجود في كل حضارة على الرغم من اختلافه من واحدة الى أخرى عقيدة وتطبيقاً لأنه يُعين الذين يعتنقونه على تفسير الأحداث المعقدة والغامضة التي يواجهونها ويخلق تماسكاً اجتماعياً قوياً بينهم ويُمكنهم من ان يميزوا بين الصح والخطأ من وجهة نظرهم في أعمالهم . ( )
وثمة وظائف اخرى يؤديها الدين للأفراد والجماعات وهي :
1- للدين دور كبير في تنظيم الحياة الإنفعالية والعاطفية التي يعيشها الإنسان لا سيما وقت تعرضه للتحديات والأزمات والنكبات و الأخطار كالحروب والفيضانات والزلازل والبراكين والمجاعات وموت المقربين اليه لسبب أو لآخر .
2- يساعد الدين على تحقيق الوحدة الفكرية والعقلية والعقائدية والكفاحية بين الأفراد الذين يؤمنون به .
3- من الوظائف الإجتماعية الأخرى للدين انه ينظم الحياة الإجتماعية في المجتمعات المحلية .
4- يُعد الدين وسيلة مهمة من وسائل الضبط الإجتماعي ذلك ان الدين يُرشد الأفراد الى السير في الطريق السوي ويقيه من الشذوذ والإنحراف والجريمة .
5- يهذب الدين شخصية الفرد ويجعلها قادرة على أداء دورها في المجتمع .
6- يحل الدين بعض المشكلات أو الصعوبات التي يعاني منها الأفراد في اللقاءات الطقوسية والعبادية التي يؤديها الأفراد بشكل جماعي .
7- يزود الدين المجتمع بالقيم الفاضلة التي تساعده على النمو والبناء والتطور .
وفي رأي ماكس فيبر ان وظيفة الدين الرئيسة هي ارضاء الحاجة الإنسانية العميقة لإخفاء بعض المعاني على الكون , فبعض هذه المعاني أو ما يسمى بالعقلانية الدينية نتيجة تصنعها جهود طبقة المفكرين . ( )
الفصل الثالث / نشأة الدين وتطوره The Raise and Development of Religion
المبحث الأول / نظريات حول نشأة الأديان
من المعروف لدينا في إن علم نشأة الدين أو ما يعرف بعلم الإجتماع الديني هو علم حديث نسبياً فهو لم يبدأ إلا في القرن التاسع عشر , وكان أوائل العلماء الذين بحثوا في نشأة الدين السير جيمس فريزر و إدوارد تايلر و إميل دوركهايم و مالينوفسكي و بروان و ماركس و فيبر وغيرهم من علماء الإجتماع والأنثروبولوجيا .
ان تأخر دراسة الظاهرة الدينية يرجع الى ارتباط الدين بالجانب العقائدي من حياة الناس مما يجعله محاطاً بسياج من الرهبة والقدسية التي تدعو الى الحذر والتردد في معالجة قضاياه ومواضيعه الحساسة .
ومع ظهور المجتمعات البشرية , وازدياد اعتمادها على الطبيعة ومحاولة التحكم بها خاصة عند المجتمعات الزراعية البدائية , وبإزدياد تأثير الظواهر الطبيعية على تركيبة هذه المجتمعات وطرق انتاجها لحاجاتها البشرية , بقيت المجتمعات البشرية غير قادرة على التحكم بأساليب حياتهم ومعيشتهم , فبدأ الإنسان ضعيفاً عاجزاً أمام قوى الطبيعة العاتية , فظهر الدين أو ما يعرف بالفكر الديني , حيث أخذ البشر بالإعتقاد بوجود كائنات أو قوى غيبية تعيش في أماكن بعيدة تتحكم بمصير المجتمعات البشرية , فكان لابد من استرضاء هذه القوى او الكائنات وتقديم الطاعة والولاء والقرابين لتحميهم وتمنع الأخطار عنهم , وبهذا ظهر ما يعرف بالدين أو الفكر الديني .
وترجع أسباب دراسة الأديان الى دخول أوروبا عصر التنوير في القرن الثامن عشر , وعمّت العقلانية جميع أوساط , فشن العلماء الطبيعيون حرباً ضد الكنيسة وأدرك العلماء في ذلك العصر ان المنهج الذي يطبقه العلماء الطبيعيون يمكن تطبيقه على العلوم الإنسانية , وقد ساعد على ذلك ان العلوم الطبيعية قد بدأت تتقدم بسرعة مذهلة , واجتاحت الثورة الصناعية أوروبا , ونشأت الحركات الإستعمارية لتغذية الصناعة بالمواد الخام , ومع الإستعمار انتقل الكثير من الأوروبيين للعيش في أفريقيا وأسيا وتعايشوا مع الناس غير مسيحيين , بل ودرسوا تأريخ إيران والشرق الأقصى بدياناته المتعددة , والحضارة المصرية القديمة , وقد قاموا بمقارنة ما وصلوا اليه من بما جاء بالتوراة , فوجدوا اختلافاً كثيراً أدى الى ظهور النقد اللاذع للتوراة , بل والكتاب المقدس ككل , فتدخلت الكنيسة لتوقف هذا النقد اللاذع , ولتخرج من الحرج الذي وقعت فيه , فقام كثير من أتباعها من العلماء بتبني نظرية دارون في التطور وطبقوها على الأديان بمقولة ان المظاهر الدينية التي يتمتع بها الهمج أو المسلمون أو غيرهم تعتبر بداية سابقة للتطور الديني المسيحي الأوربي , غير ان هؤلاء المفكرين من أتباع الكنيسة أغفلوا أو تغافلوا عن حقيقة مهمة , وهي ان نظرية التطور بالرغم مما وجه اليها من النقد كان مجالها علم البيولوجيا وليس مجال الدين هذا من جهة , ومن جهة أخرى فإن القول بان الدين ظاهرة تخضع للتطور وان الأديان الأخرى غير المسيحية حلقة في سلم التطور امر يناقض العقل فلماذا تطور الأوربيون الى المسيحية ولم يتطور غيرهم بالرغم من التعاصر الزمني بين الفريقين , وكانت البدايات الأولى مع تحديد ماهية الدين وكنيته , ورغم اخ
رد: علم الإجتماع الديني المفاهيم الأساسية - النشأة والتطور
الفريقين , وكانت البدايات الأولى مع تحديد ماهية الدين وكنيته , ورغم اختلاف التحديدات في ذلك وتعارضها احياناً إلا أن الأبحاث والكتابات فيها كانت كافية لظهور ما يعرف بإسم علم الدين , وفيه وضعت أسساً كافية لدراسة الدين علمياً وكيفية النظر له كظاهرة سوسيولوجية وكيفية اقامة علم الإجتماع الديني . ( ) فعلم الدين هو العلم الذي يهدف للدراسة الموضوعية للدين , ويرى اسكوبس انه ينقسم لفرعين هما :
أولاً - التأريخ العام للأديان حيث يتناول نمو وتطور اديان تأريخية معينة ويدرس مراحل هذا التطور ويحاول ان يفسر كيف ان هذه المراحل ما هي إلا انبثاقات من مسلمات كل عقيدة وتحتوي كذلك على التطور النفسي لمجتمعات دينية خاصه وتناقش كذلك المسائل المتعلقة بالعقيدة والشعائر والمؤسسين والدراسة في ذلك تركز على حقائق كما هي في هذه الأديان .
ثانياً - الدين المقارن حيث يركز حول تحليل انواع مختلفة من التجربة الدينية , وهذا ما يتم من خلال مقارنة الأديان لمعرفة التطورات النمطية والسمات المميزة والقوانين المتبعة فيها لذلك يقرر الباحث الأساسيات المحددة لمختلف الجوانب في الدين فإنه مُطالب بتحديد السمات الرئيسية في الأديان التأريخية , وعليه فإن اشكالية الإجتماع الديني وعلم النفس الديني وفلسفة الدين وغيرها من أمثال هذه الفروع كلها من العلوم المساعدة لعلم الدين لان كل منها يبحث في منطقة صغيرة في كينونة الدين ولا يمكن النظر للدين عبرها فقط . وقد طرح بعض المفكرين التطوريين الكثير من النظريات عن نشأة الأديان البدائية دون تمحيصها على ضوء الواقع الإجتماعي لهذه الجماعات ومن أهم هذه النظريات ما يأتي :
1- النظرية الإرواحية :
وهي النظرية التي قدمها تايلر وتفترض ان أصل الأديان ينبع من تجربة الأحلام والتخيلات التي أرشدت الإنسان البدائي الى اكتشاف مفهوم الروح الذي اتسع نتيجة استطراد فكر هذا الإنسان متجاوزاً أرواح الكائنات الحية الإنسانية والحيوانية والنباتية الى الأشياء غير المادية والقوى الغيبية غير المرئية والمجردة . ( )
حيث قدم تايلور تفسيراً نفسياً و إجتماعياً في آن واحد وهو حاجة الإنسان القديم لفهم طبيعة الأحلام والنوم الموت , وقد دفعته هذه الحاجة الى التوصل الى مفهوم (الروح) , ثم قاده هذا الإكتشاف الى ان الأرواح تغادر الأجساد بشكل مؤقت , كما هو الحال في النوم , أو تغادر بشكل نهائي كما في (الموت) , وحين يموت الإنسان تغادر جسده إلا انها تبقى تحوم في المكان نفسه , وتكون مصدر قلق للأحياء مما دفعهم ذلك الى التقرب منها وتقديم الأضاحي خوفاً من الأذى الذي تلحقه بهم , وهكذا بدأت عبادة الأجداد .( )
2- النظرية الحياتية :
وترجع الى الأستاذ ماريت الذي يعتقد بأن هناك مرحلة سبقت ظهور مفهوم الروح وهي مرحلة مفهوم الحياة , فالإنسان الأقدم بإعتقاده ظل لا يفهم القوى المجهولة والخفية التي تزخر بها الطبيعة , وصار يتخيل هذه القوى غير الشخصية , فعزى لها طاقة أو قوة حيوية مؤثرة هي صنف من المانا اي قوة طبيعية دينامية مجردة كالتي يعتقد بها سكان جزر اوقيانوس في المحيط الهادي .( )
حيث تميز ماريت بفكر غني متشبع بفهم الموضوع كما يتضح ذلك في كتاباه (عتبة الدين) 1909 و (علم النفس والفولكلور) 1910 , فالحركية التي يقترحها ترتكز على مصدر السببية وعنصرها الفاعل الذي يختلف عن الحركية في نواميس الطبيعة , فنراه في هذا الإطار من المعنى يسبب الدور الأهم في سببية الفكرة الدينية , لا الى الأرواح المشخصة بالصورة الملائمة , ولكن الى قوى غير مشخصة , فمثلاً الإعصار لا تسكنه الروح ولكنه حي بنفسه , ثم تقوده هذه الفكرة الى تقرير المبدأ التالي : الأرواح والإلهة خلائق الإنسان احدثتها ضرورة تأسيس نظام اجتماعي على عناصر يفترض فيها ان تتجاوز طاقة الإنسان . ( )
3- نظرية عبادة الأشباح :
وهي فكرة الأستاذ هربرت سبنسر عن أصل الأديان , وهو يرى ان هذا النوع هو الأقدم , وقد انبثق كما اعتقد من الأهمية التي كانت تضفيها الجماعات القديمة على أسماء ملوكها وأبطالها وأجدادها .( )
ويرى سبنسر ان عبادة الأسلاف أقدم من عبادة الأشياء الطبيعية ان الإنسان البدائي كان يرى في أحلامه صورة أبيه الذي مات , وهو كذلك يستطيع ان يتصوره في اليقظة , وان روح أبيه يمكن ان تنفعه اذا رضيت عنه , أو ان تسخط عليه اذا لم ترض , ولذلك فقد حاول الإنسان البدائي جاهداً ان يسترضي هذه الأرواح , أي أرواح الأسلاف , ومن هنا نشأت القرابين . ( )
4- نظرية السحر :
وقد صاغها الأستاذ جيمس فريزر الإنكليزي , وهي تُرجع ظهور الأديان البدائية الأولى الى فشل السحر في تحقيق ما كان يصبوا اليه الإنسان من سيطرة على ظواهر الطبيعة مما دفعه الى الإعتقاد في وجود قوى فوق طبيعية خارقة لا تخضع لإمكانيات السحر , مما اضطره الى ان يُذعن لها ويتقيها . ( )
فنشأة الدين من وجهة نظر فريزر بأن الإنسان لجأ الى الدين لا خوفاً من الطبيعة بل رغبة منه في أن يسيطر عليها , وان السحر سبق الدين في ظهوره , وان الدين سبق العلم . ( )
5- نظرية عجز اللغة :
ان واضع هذه النظرية هو الأستاذ ماكس مولر , وهي تشير ان أصل الفكر الديني يعود الى علة اساسية في اللغة تنطوي على اضفاء صفات العقل والقصد والإرادة على الظواهر الطبيعية كالعواصف والبراكين والزلازل مما دفع الإنسان تدريجياً الى الإعتقاد بأن هذه الظواهر وأمثالها تتسم بالعقل .( )
فهي تمثل عبادة بسيطة للظواهر الخارقة للطبيعة يُعتقد انها تتمتع بقدرات كونية , والتي تظهر أحياناً مجسدة , كذلك يمكن اعتبارها موقفاً كونياً لفهم العالم , بإعتباره مجموعة من الرسائل التي تحتاج الى تفسير. ( )
6- نظرية الضعف الإنساني :
ويرى واضع هذه النظرية الأستاذ بروس بأن الإنسان الأقدم ظل فترة طويلة يعاني من عجزه عن كبح جماع الطبيعة , وقد دفعه تخلفه التكنولوجي الى الإعتقاد بسطوة الطبيعة , وحتمية خضوعه لها والحاجة الى جعل صلاته بها مبنية على العبادة والخشية .
7- نظرية عبادة الأجرام السماوية :
تفترض هذه النظرية ان أقدم الأديان انطوت على عبادة الأجرام السماوية خصوصاً الشمس أو القمر نتيجة التصور البشري بوجود سمات عقلية في هذه الظواهر , ويطلق على هذا النمط من الاديان (بالوثنية النفسية) .
8- نظرية الغريزة الدينية :
ان نشأة الأديان كما تقترح هذه النظرية كانت حصيلة غريزية دينية فطرية دفعت الإنسان الى الحس بالحاجة للأديان لمواجهة مخاوفه من القوى الغامضة التي تغلف وجوده في الطبيعة .
9- نظرية الطوطم :
وهي للعالم الفرنسي دوركهايم وتُرجع اصل الأديان البدائية الى حاجة الإنسان للتضامن الإجتماعي , وقد توصل الإنسان حسب رأي هذا العالم الى فكرة الطوطم بوصفه اقدم الرموز الدينية التي جاءت لتجسيد مفهوم الوحدة الإجتماعية لدى الجماعات . ( )
وعلى حد تعبير دوركهايم في كتابه (الصور الأولية للحياة الدينية) , فإن الدين مسألة اجتماعية وليس مسألة فردية , وإن الحيوانات الطوطمية كانت تُقدس في أستراليا على اعتبار أنها ترمز الى وحدة الجماعة أو العشيرة , وتقديسهم للطوطم كانوا يقدسون العشيرة ذاتها أي المجتمع نفسه , وفي احترامهم للطوطم كانوا يعبرون في الواقع عن علاقة أفراد المجتمع بالمجتمع ذاته , على ان المجتمع هو مصدر التقاليد الخلقية مثلما هو مصدر لوجودهم نفسه , كما ان الهة القبيلة تمثل لنا نظام المجتمع القبلي ذاته . ( )
10- نظرية الإله الأعلى :
وقد اقترحها المفكر الألماني وليم شمت , وفحواها ان الديانات الأولى كانت تعتمد على نظام عبادة الاله الواحد , غير انها تدهورت وتشوهت في ظنه مع مرور الزمن وصارت ترتكز على مبدأ تعدد الآلهة .
11- نظرية تمجيد الملوك :
ويعتقد أصحابها الإنتشاريون الإنجليز بأن الدين جاء نتيجة للإعتزاز بذكرى الملوك بعد موتهم , وقد استحال الإعتزاز الى الرغبة بالتخليد ثم تطورت الفكرة وتحولت الى تخليد هذه الذكرى , وعندها أصبح الملك موضع احترام مقدس .
12- نظرية التجربة الطفولية :
صاحب هذه النظرية هو الأستاذ سيغموند فرويد الذي يعتقد ان الدين قد تمخض عن تجربة الطفولة الأولى التي تعرضت لها البشرية الأولى في القدم , وتدور هذه التجربة حول تآمر الصبية في أول زمرة انسانية على زعيم الزمرة - ابيهم – وقتله
وكان لهذا الجرم أثر عميق في نفوسهم ادي قيما بعد الى شعورهم بالندم وتأنيب الضمير, ونتج عن هذا ان تعاضمت شخصية الأب القتيل في ضمائر الأبناء , مما حدى بهم الى تخليد ذكراه عن طريق عبادته , وقد مثلوا له بالطوطم الذي أصبح رمزاُ يشير الى مكانته في أذهانهم وتدور حوله طقوسهم الروحية . ( )
واستنتج فرويد في كتابه (طوطم و تابو) ان قتل الأب حرّمة تناول الطوطم , وربط حرمة جماع الأم بقاعدة طوطمية , خاصة بالزواج من خارج العشيرة , لكن ما الدليل على هذا القتل المزعوم أصلاً للأب ؟ , بالإضافة الى ان الزواج من الأقارب لا يتعلق فقط بالعلاقة الجنسية مع الأم , ومن محض الخيال , بين تناول الأغذية وإقامة علاقة جنسية , خاصة ان الطوطميات لا تحرم دائماً الأغذية , ورغم ذلك , فمن الصحيح ان الفكر الطوطمي يتضمن مواقف طقوسية تتعلق بالإحترام والتقوى , وأيضاً بطاعة التعليمات والمحرمات مثل كل الأديان , ولا يدل ذلك على قدم الطوطمية مقارنة بالأديان المنظمة أو أديان الخلاص (المسيحية) . ( )
13- نظرية القربان :
وتقدم بها روبرتسن سمث وهي تنص على ان الدين الأول قد نتج عن مفهوم القرابين , فقد ابتكر الإنسان هذا المفهوم ليكون همزة الوصل بينه وبين القوى الفوق طبيعية , وبينه وبين افراد جماعته التي تأكل من لحم القربان . ( )
المبحث الثاني / الإتجاهات النظرية في دراسة الدين
أولاً / الإتجاه الوضعي العقلاني
يُعد هذا الإتجاه نموذجاً ناجحاً في دراسة الدين , ذلك لأنه تجنب نواحي القصور التي وجدت في الإتجاه الوضعي , حيث انه جمع مزايا الإتجاه العقلاني , فقد وضع نموذج الفكر الوضعي تحديدات قوية على نوعية ومغزى الظاهرة الدينية , ففي اطار هذا الإتجاه يوجد نموذجان للتفسير النظري للظاهرة الدينية :
الأول – يُعالج الظاهرة الدينية على أنها إظهار للعوامل البيولوجية والسايكولوجية للوصول الى الضبط العقلي أو تفسيرات في ضوء مفاهيم , وعادة يقوم هذا النمط الى رؤية لنظرية غريزية تلبث ان تعاني من قصور علمي شديد , فهي لا يمكن ان تبرهن عن امكان ربط تفاصيل التغيرات التي تُظهر سلوكيات الظاهرة بما يطابقها من تغيرات في بناء الدوافع الغريزية .
الثاني – حيث تختلف العقلانية عن الوضعية في انها تتجه الى معالجة الفاعل على انه باحث عاقل يفعل في رُشد وفي ضوء المعرفة المتاحة له , فقد سلك سبنسر وتايلور هذا المسلك في معالجتهما للسحر البدائي والأفكار الدينية , وذهبا الى أن السحر البدائي والأفكار الدينية هي أفكار في مستوى الإنسان البدائي , مع الأخذ بالإعتبار القصور في تراكم المعرفة , التكنيك المحدود , وقلة فرص الملاحظة التي يعايشها الإنسان البدائي , فالإعتقادات المتمثلة في انفصال الروح من الجسد والممارسات الطقوسية تشير الى نمط من التفكير , لذلك فالمعتقدات الدينية السحرية والممارسات الجماعية يمكن ان تتغير مع التقدم العلمي , وقد برهن هذا النموذج على ان يكون نقطة البداية في تطور هذا الإتجاه , لأنه جعل من الممكن تحليل الفعل في ضوء مفاهيم وجهة النظر الذاتية للفاعل في توجيهه لملامح معينة في الموقف الذي يتحرك أو يفعل فيه , أن الإتجاه الوضعي العقلاني جمع بين النموذجين السابقين , حيث يظهر هذا الإتجاه جلياً في اسهامات كلٍ من دوركهايم وماكس فيبر . ( )
1- دوركهايم :
ترجع الجذور الفكرية الأساسية لدراسة دوركهايم للدين الى كلٍ من (فوستيل دي كو لانج) , و (روبرتسون سميث) , فالأول أرجع الجوانب السياسية والبناء الكلي للمجتمع الى المعتقدات الدينية التي تحدد التنظيم الإجتماعي , أما الثاني فيرى أن الدين البدائي هو كيان اجتماعي , فالأفراد لا يختارون مجموعة معتقدات لتفسير الأشياء , ولكن يولدون في مواقف اجتماعية حيث الأفعال الدينية الموجودة المتوارثة , ففي المجتمع القبلي لا توجد علاقة خاصة فردية بين الآلهة , ولكن الأفعال الشائعة المقدسة تربط الأفراد بعضهم ببعض في الجماعة مع الإله أو الآلهة التي يقدسها المجتمع ككل , ويرى دوركهايم ان الضبط الإجتماعي والوجود الإجتماعي ذاته يركز على مفهوم الشعور الجمعي , وان المنطق يُخلق ويُقوى في كل مجتمع بواسطة الدين , وفي العمل الذي اشترك به مع (مارسيل موس) في تصنيف البدائي , أوضح دوركهايم ان الدين يمدنا بالفهم وبدونه لا نستطيع ان نفكر , فالأديان أنساق من الأفكار التي تعطينا فهماً كاملاً عن العالم , ولم يُثر دوركهايم أي مناقشة حول صدق الأفكار الدينية , لأنه يرى أن الأفكار الدينية تُعبر وتُحقق الحاجات الإجتماعية , ووفقاً لهذا فهي لا يمكن أن تكون غير حقيقية أو غير صادقة . ( )
ويمكن اعتبار مؤلفه المسمى (الأشكال الأولية للحياة الدينية 1912م) من أبرز الأعمال المؤثرة في علم الإجتماع الديني , ولا يربط دوركهايم الدين بالتفاوت الإجتماعي أو السلطة , بل يدرس علاقته بطبيعة المؤسسات المجتمعية , ويركز عمله على دراسة الطوطمية التي يمارسها سكان استراليا الأصليون بإعتبارها تمثل الأشكال الأولية للدين , فالطوطم حيوان أو نبات يُجسد قيمة رمزية للجماعة ويحظى بالإجلال و الإحترام لان له طابعاً مقدساً تتبلور حوله منظومة من الأنشطة الطقوسية المتنوعة , ويعرف دوركهايم الدين عن طريق الفصل بين ما هو مقدس من جهة وما هو مدنس من جهة اخرى , ويتعامل الناس مع الأشياء والرموز المقدسة بمعزل عن الجوانب الروتينية اليومية التي تدخل في باب المدنس , ويحظر في هذه الحالة أكل الطوطم من الحيوانات أو النبات إلا في مناسبات احتفالية معينة , كما ان الناس يسبغون على الطوطم خصائص إلهية تميزه تماماً عن أنواع الحيوانات الأخرى التي يمكن اصطيادها أو المحاصيل الأخرى التي يمكن التقاطها واستهلاكها . ( )
وكان دوركهايم يعتقد ان الدين سينحسر مع تطور المجتمعات الحديثة , وسيحل مكانه التفكير العلمي , وبشترك دوركهايم مع ماركس في الرأي بأن الدين التقليدي , أي الإيمان بآلهة أو قوى علوية هو على وشك الإختفاء , ويقول دوركهايم في إحدى عباراته المشهورة : ( لقد ماتت الآلهة القديمة ) , غير انه يعترف ان الدين قد يستمر , وان كان ذلك بأشكال بديلة أخرى , وما زالت المجتمعات الحديثة تعتمد على الممارسات الطقوسية لتأكيد تماسكها الإجتماعي وقيمها الأساسية , ولم يتخذ دوركهايم موقفاً واضحاً من الأشكال البديلة المحتملة للعقائد الدينية التقليدية , غير انه ألمح أكثر من مرة الى أن الشعائر البديلة ستدور حول القيم الإنسانية مثل (الحرية والمساواة والتعاون الإجتماعي) . ( )
ويركز دوركهايم في معالجته لموضوع الدين في ثلاث محاور رئيسية وهي :
المحور الأول- الأسس الإجتماعية للدين :
كان تفسير دوركهايم لطبيعة الدين تفسيراً اجتماعياً خالصاً , وعليه فقد انتقد النظريات الفردية والنفسية التي حاولت تفسير ظهور المعتقدات الدينية عن طريق العوامل البيولوجية كالأحلام والرؤيا , وكذلك النظرية الطبيعية لماكس مولر التي تذهب الى ان الدين يرجع الى العوامل الطبيعية والكونية , ويرى دوركهايم ان هذه النظريات فشلت في تقديم تفسير للدين والتفرقة بين ما هو مقدس وما هو دنيوي , وينظر دوركهايم الى الأفكار والممارسات الدينية على انها تشير وترمز الى الجماعات الإجتماعية , كما اعتبر المجتمع المنبع الأصلي للدين , ولذلك عرف الدين بأنه نسق موحد من المعتقدات والممارسات التي تتصل بشيء مقدس وهذه المعتقدات و الممارسات في مجتمع أخلاقي واحد ويضم كل الذين يرتبطون به .( )
المحور الثاني – الصور الأولية للدين :
يرى دوركهايم ان الديانة الطوطمية هي الصورة البسيطة و الأولية للدين , وفي هذه الديانة يُعتبر الطوطم هو الرمز الذي تتخذه العشائر البدائية لنفسها , سواء أكانت مُستمدة من المملكة الحيوانية أو النباتية أو القوى الطبيعية أو الجماد , وأهم العناصر في الطوطمية تكمن في ان أفراد العشيرة يعتقدون أنهم منحدرون من هذا الطوطم , فهو الأصل في وجودهم , ويترتب على ذلك أن الأفراد الذين ينتمون الى نفس الطوطم يعتبرون انفسهم أقارب فيما بينهم , ومعنى ذلك أن القرابة لا تقوم على أساس وحدة الدم , وانما تربط أفراد العشيرة وحدة قرابية معنوية , تقوم على أساس اشتراكهم في نفس العادات والتقاليد والطقوس الدينية التي يلتزمون بأدائها نحو الطوطم , وتقوم الديانة الطوطمية على أساس تقديس طوطم العشيرة تقديساً يحرم قتله أو صيده اذا كان من المملكة الحيوانية , ويحرم أكله اذا كان من المملكة النباتية .
المحور الثالث – الوظائف الإجتماعية للدين :
حدد دوركهايم الدين بناءاً على وظائفه الإجتماعية في معالجته للظاهرة الدينية , وكان تركيزه منصباً على الشعائر والأفعال أكثر من المعتقدات , ويرى أن وظيفة الدين هي ربط الأفراد بمجتمعهم بقوة عن طريق : الفهم Comprehend أي فهم الواقع والعلاقات الإجتماعية , والإتصال Communicate بمعنى اتصال الأفراد بعضهم ببعض على أساس من المفاهيم المشتركة , والتحديد Specify اي تنظيم الأفكار والعلاقات الإجتماعية عن طريق هذه الأشياء يتقبل الأفراد الدين على أنه شيء ملزم ومطلق . ( )
2- ماكس فيبر :
يعد إسهام ماكس فيبر في مجال الدين إسهاماً نظرياً عظيماً , فقد اهتم بدراسة العلاقة بين الدين و الإقتصاد , وكان يرمي من وراء هذه الدراسة الكشف عن طبيعة العلاقة بين الظاهرتين , هل الإقتصاد يؤثر على الدين كما يؤكد ذلك أصحاب التفسير المادي , أم أن الدين يؤثر على الإقتصاد , أم أن هاتين الظاهرتين تتبادلان التأثير والتأثر , وقد توصل فيبر في دراساته الى ان هناك تأثيراُ متبادلاً بين الظواهر الدينية والظواهر الإقتصادية , وقد انصب اهتمام فيبر على دراسة الأخلاقيات الإقتصادية للدين , وتناول الأخلاقيات الإقتصادية لست ديانات عالمية : الكونفوشيوسية والهندوسية واليهودية والمسيحية والإسلامية , ثم درس طبيعة الأخلاقيات الإقتصادية في كل منهما , وآثارها على التنظيم الإقتصادي والحياة الإجتماعية للشعوب التي تنتمي الى هذه الديانات . ( )
كما انه درس آثار المسيحية في تأريخ الغرب في عدة مؤلفات من أبرزها (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية1904 م-1905 م) , وتختلف كتابات فيبر عن الدين عما وضعه دوركهايم من ناحية تركيزها على الترابط بين الدين والتغير الإجتماعي , وهو المجال الذي لم يتطرق اليه دوركهايم , كما أن فيبر يعارض الموقف الذي اتخذه ماركس , اذ يرى أن الدين لا يمثل بالضرورة قوة محافظة , بل ان بعض الحركات والتوجهات الدينية التي تستلهم جانباً من تعاليم الدين قد أحدثت تحولات اجتماعية مثيرة في المجتمعات الغربية , فقد كانت البروتستانتية , ولا سيما الإتجاه التطهري البيوريتاني منها , المنبع الأساسي للنظرة الرأسمالية في المجتمعات الغربية الحديثة , و كان أوائل المبادرين بالمشروعات التجارية من أتباع الزعيم البروتستانتي (كالفن) , وكانوا في اندفاعهم لتحقيق النجاح الذي أسهم في انطلاق التنمية الإقتصادية الغربية , يصدرون عن رغبة في خدمة الله , وكان النجاح المالي المادي بالنسبة اليهم علامة من علامات العناية الإلهية . ( )
يدفع فيبر بأن الكلفانيين ومسيحين متزمتين آخرين لشعوب القرنين السادس عشر والسابع عشر كوّنوا وجهة نظر عن الحياة تناسب عن قرب صورة الرأسمالي الكامل , لقد اعتقد الكلفانيين ان حياة الإنسان مقدرة له , وأن ثمة قلة اصطفاها الرب للخلاص , لكنه مستحيل للكائنات البشرية أن تستوعب لماذا ينبغي ان يكون هذا , إن رب كالفن كان بارداً وصارماً , كان يتطلب الطاعة , ولكن لن يشرح , وحسب رأي فيبر فإن هذا الغموض المقترن بالمذهب عديم الرحمة يخلق توتراً لا يحتمل في حياة الكلفانيين , باحثين عن حلول , يجول في خاطرهم أن العمل الشاق المقترن بطريقة العيش المقتصدة فقط هو الذي يمكنه أن يقربهم من نعمة الله , كان مفروضاً عليهم أن يحققوا نتاجات , ولكن حرم عليهم أن يتذوقوا ثمار عملهم , وبدلاً من ذلك يعيدون استثمارها في مشروعهم مُحدثين حلزوناً من الأرباح المتزايدة لقداسة الرب , إن رأي فيبر لا يعني بالضرورة أن الكالفينية هي السبب في الرأسمالية , فقد كانت هناك اسباب عديدة تبرر نشأة الرأسمالية , كما أن اعادة الإستثمار ليست بأية حال من اختراع الكلفانيين , لقد كان الرأي الأصوب أن الكلفانية وبمفهوم اوسع البروتستانتية في مجملها شكلت ايديولوجيا بررت و أيضاً مجدت الأخلاق الرأسمالية . ( )
ومع ذلك فإن المذهب الكالفيني المتعلق بالقدر والإحسان يمكن أن يؤدي الى خلق عقلية معارضة للروحانية لدى المؤمنين جاعلاً من العمل واجباً , ومن النجاح إشارة الى الإختيار , ومن الإثابة رفض فضيلة , ويتلازم البحث عن الربح مع جهد لعدم التمتع بالثروة , بل وضع الأرباح في مشروع , وهذا من شأنه الى ميلاد عقلية عقلانية تتعلق بالرجل الرأسمالي الحديث . ( )
ويحدد فيبر القيم الأخلاقية للديانة البروتستانتية في المبادئ التالية :
أ- مبدأ العمل – حيث ترى الكالفينية أن العالم وجد من أجل خدمة الله , فلا شك أن هذا المبدأ ينظم الحياة الإجتماعية الدنيوية , والعمل لا يمارس لخدمة المصلحة الشخصية , بل للمصلحة العامة , وفي هذا تعزيز لمجد الله وتحقيق لإرادته .
ب- مبدأ الثقة بالنفس – على الإنسان ان يثق بذاته , وأن يحارب كل الشكوك , لأن عدم الثقة بالنفس تنجم عن الإيمان الناقص والحالة الدينية غير الكاملة , ولا تأتي هذه الثقة إلا من خلال النشاط الدنيوي المكثف الذي يُعد أفضل وسيلة للتخلص من الشكوك الدينية , والتأكد من رحمة الله .
ت- مبدأ القضاء والقدر – ان الأفراد وجدوا من أجل الله , الذي هو حر لا يخضع لأي قانون , وهو الذي يحدد مصير كل فرد , ولذلك فلا ضرورة للمعايير والقوانين الوضعية .
ث- ضرورة تخلص الإنسان من دوافعه غير الرشيدة , وايمان الفرد يتحدد من خلال أعماله الدنيوية .
ومن خلال هذه المبادئ الأخلاقية والقيم التي أتت بها الديانة البروتستانتية خلُص فيبر أن الروح الرأسمالية بالشكل الذي حدده قد تشكلت من خلال الديانة البروتستانتية , وحاول فيبر تأييد استنتاجه من خلال تحليل تأريخ بعض الدول البروتستانتية , فمنذ عصر الإصلاح كانت الدول الرائدة اقتصادياً , هي تلك التي تسودها العقيدة البروتستانتية مثل هولندا , انكلترا , أمريكا , في حين ظلت الدول الكاثوليكية أو غير البروتستانتية متخلفة نسبياً , وقد فسر فيبر ذلك بأن العقيدة البروتستانتية في تلك الدول كانت تدعيماً وتثبيتاً لأشكال النشاط
الذي يعتبر ضروري لإقامة وإدارة المشروعات الرأسمالية الحديثة , وقد دعمت البيانات الإحصائية آراء فيبر , وأوضحت أن السكان البروتستانت في ألمانيا تتميز حالتهم الإقتصادية بأنها أفضل من غيرهم , واذا كان فيبر قد أثبت أن الديانة البروتستانتية ساهمت في ظهور النظام الرأسمالي الرشيد , فقد حاول أن يثبت في دراسته للإسلام أن بناءات المجتمعات الإسلامية لا تتضمن العناصر البنائية الضرورية القادرة على بلورة نظم رأسمالية متطورة لأن نظرة فيبر للإسلام قاصرة , وقد تأثر بالأفكار العامة التي كانت سائدة في أوروبا خلال القرن التاسع عشر , وهي الأفكار التي تميل الى وصف المجتمعات الشرقية بعدم الإستقرار السياسي و الإقتصادي , فضلاً عن الجمود الفكري والتخلف الثقافي .( )
ثانياً / الإتجاه الأنثروبولوجي :
1- مالينوفسكي :
يرى مالينوفسكي أن الدين والسحر إستجابات للضغوط العاطفية , والدين لا يستمد أساسه من المجتمع نفسه , ولكن من الحاجة الى مجتمع مستقر يجد إجابة لحاجات أفراده العاطفية , فالوظيفة الأساسية للدين عند مالينوفسكي هي اتجاهات قيمية عقلية Valuable mental attitudes)) , فالطقوس المرتبطة بالموت تعمل على تقوية الرابطة بين الأحياء بعضهم ببعض , كما تحميهم من حالة إنعدام المعنى المحيط بالحياة الإجتماعية , فالدين قوة هامة للضبط الإجتماعي , وهذا لا يرجع الى أنه منبثق من المجتمع , ولكن لأنه يقدم للأفراد الإجابة والإنضباط التي يحتاجون اليها في أوقات أزماتهم , وقد قادت النزعة النفسية الوظيفية مالينوفسكي الى القول انه بالرغم من أن معظم الأديان تُمارس بصورة جماعية وتهتم بالمجتمع , فإن في الشعوب البدائية يوجد بعض التجارب الدينية الخاصة سببها حاجات فردية شأنها شأن الحاجات الإجتماعية . ( )
ويُعد مالينوفسكي من جيل العلماء الأنثروبولوجيين الذين تخلو منذ 1930 تقريباً عن البحث في جوهر الأديان وأساسها وأصلها للمشاركة في البحث في نفعية الديانات المختلفة من خلال دراسات لحالات محددة , حيث ظهرت في مؤلفاته : (سحر البساتين 1935م , وأساطير 1948 م , و تروبرياندي دي ميانيزي) .( )
ويرى مالينوفسكي رائد النظرية النفعية ان مجمل العقائد والممارسات تشكل وحدة نفعية مترابطة وواضحة ومنطقية في إطار المفهوم الذي من داخله يفكر المجتمع في الطبيعة , والوضع الإجتماعي , ويحمي في الوقت نفسه النظام المطبق , ويعبر السحر والدين عن كل الجهود الإنسانية حتى تتحقق الرغبات حتى ولو بطريقة وهمية , فهي تتعلق بالمقدس المحاط بأوامر ومحرمات لكن ترمي مثل العلم الى أهداف عملية . ( )
حيث يختلف مالينوفسكي عن الكثير من علماء الإنسان والأثنولوجيين من أمثال دوركهايم وراد كلف براون وليفي برول , فهو يرى ان بحث الأديان ينبغي ان يتم على أساس ارتباطها الوثيق بالتركيب الثقافي للبشر بإعتباره بناءاً موجهاً لإرضاء حاجات الناس الأساسية الكامنة في الشخصية , وليس كما يرى براون من انها تجسد الضوابط التي لا تُفهم إلا من خلال ارتباطها بشبكة العلاقات الدائرة في فُلك البناء الإجتماعي , أو كما يصورها ليفي برول من أنها تجسد العقلية اللامنطقية للجماعات الأمية أو البدائية .
كذلك يرفض مالينوفسكي افتراض (ماكدوكل) من ان أهمية الأديان البدائية ترجع الى غريزة معينة في الإنسان تنطوي على الميل الروحي الفطري , وفرضية ادورد تايلر التي تبحث اصل الدين من زاوية الأحلام التي اعتبرها التجربة الفكرية الأولى التي أوحت للإنسان الأقدم بمفهوم الأرواح وأدت فيما بعد الى ظهور الأديان , كما لا يتفق مالينوفسكي ورأي العالم الألماني (فوندت) القائل بأن النزعة الدينية تنبع من عواطف الرهبة والخوف , ونظرية دوركهايم من ان الأديان تُجسد قوة المجتمع وسيطرته على أذهان الأفراد وسلوكهم , فكل هذه الآراء والفرضيات تتطرق الى الحاجات الإنسانية التي ترضيها الأديان إلا انها تطرحها كما لو كانت مسائل جانبية لا تستحق أكثر من الإهتمام الثانوي والعرضي . ( )
وقد ميز مالينوفسكي بين الدين السحر , فقد أشار الى أن السحر له نهاية في المهمة التي قام من أجلها , وقارن بين الطقوس السحرية التي تقام لمنع موت الطفل وبين الطقوس الدينية التي تقام لتبارك مولد طفل فالأولى لها غرض عملي محدد ويكون معروفاً للقائمين بهذه الطقوس , أما الثانية فهي ليست وسيلة بل هي غاية في حد ذاتها , فالطقوس الدينية تعبر عن مشاعر , ويوجز مالينوفسكي أوجه التشابه بين الدين والسحر فيما يلي :
أ- يتشابه الدين والسحر في ان كلاً منهما يقوم بوظيفته في مواقف الضغوط العاطفية .
ب- كل واحد يشكل مجالات لهروب الأفراد اليها من مواقف الضغوط لما تقدمه من طقوس , ومعتقدات تعكس سيطرة ما هو وراء الطبيعة .
ت- كل واحد يرتكز على الميثولوجيا .
ث- كل واحد يوجد في مناخ اعجازي .
ج- كل واحد محاط بالتابو (المحرمات) والملاحظات التي تميز أفعاله عن غيرها في العالم الدنيوي .
ويختلف الدين عن السحر في :
أ- السحر يهدف الى غاية عملية , في حين ان الدين هو غاية في حد ذاته .
ب- المعتقدات السحرية بسيطة , في حين ان الدين يقدم جوانب وأغراضاً متعددة ومعقدة , فهو أكثر تنوعاً وأكثر خلقاً .
ت- السحر يمد القدرات العملية للإنسان , فوظيفته إضفاء القدسية على تفاؤل الإنسان ليزيد من ايمانه بأنتصار الأمل على الخوف .
ث- الدين يمد الناحية الأخلاقية في الإنسان عن طريق تزويده بالإتجاهات العقلية القيمية , مثل الشجاعة والثقة في حالات الصراع مع المصاعب وفي حالات الموت . ( )
2- راد كليف براون :
يختلف براون عن مالينوفسكي , فحين يركز مالينوفسكي على دعوى أن الإنسان له حاجات نفسية وبيولوجية , والتي يجبران تشبعها الثقافة حتى يستمر ويبقى المجتمع , نجد ان براون قد حل محل هذا النموذج رؤية وظيفية اجتماعية , والتي ينظر فيها الى انها ابنية عضوية ومجموعة من الحاجات التي تشبع فيها جميع الثقافات القائمة . ( )
ان البينة الإجتماعية كما يرى براون تنقسم الى مؤسسات منفصلة أو نظم فرعية مثل النظم المخصصة لتوزيع الأرض وتوريثها , والنظم المخصصة لفض النزاعات , والمخصصة لتأميم وتقسيم العمل في الأسرة , والنظم المخصصة عن تأمين القواعد الدينية جميعها تساهم في حفظ البنية الإجتماعية ككل , ووفقاً لبراون فإن هذا يُعتبر وظيفتها وسبب وجودها . ( )
وتقوم نظرية براون عن الطوطمية الخاصة بالنظام الديني بأنها تستند على مجموعة من القضايا التي تبدأ بمسلمات أساسية مفادها :
أ- ان هناك في كل المجتمعات الإنسانية وفي كل الأنماط المختلفة ميلاً الى التمايز في مقابلات الوحدات الأخرى الخارجية .
ب- ان تلك الجماعات في حاجتها الى ابراز ذلك التمايز فإنما تحقق ذلك في اختلاف شعائرها وطقوسها بصفة عامة ونظامها الديني بصفة خاصة عن الشعائر والطقوس والنظم الدينية في تلك الوحدات المجتمعية .
ت- ان في تلك المجتمعات البدائية التي تستند في اشباع حاجاتها الأساسية على الاستهلاك المباشر لما تقدمه البيئة الطبيعية من النبات والحيوان , فإن تلك النباتات والحيوانات تصبح موضوعاً للتقديس والتحريمات الإجتماعية , لما لها من قيمة عالية في حياة تلك المجتمعات . ( )
فالفرق بين مالينوفسكي وبراون , أن الأول (مالينوفسكي) يهتم بشيئين :
1- الموقف الذي انبثقت فيه الشعائر.
2- الوظيفة التي تؤديها الشعائر بمجرد اقامتها .
أما الثاني (اي براون) لا يهتم بالموقف الذي فيه تتولد الشعائر , ولكن اهتمامه ينصب على كيف تؤدي هذه الطقوس وظائفها في اثارة وتهدئة القلق بمجرد اقامتها .
إن اختلاف كل منهما أثار اهتماماً الى حقيقة هامة : هي ان الشعائر ليست ردود فعل لمواقف الخطر , ولكنها انجازات لتوكيد التنظيم الديني . ( )
ثالثاً / الإتجاه النفسي :
يعتبر النموذج الفرويدي من أكثر النماذج انتشاراً في الدراسات النفسية , وينظر فرويد الى الدين مثل نظرة ماركس على انه شيء مخدر يعطي معنى زائفاً لعالم بلا قلب , فإن فرويد يرى ان بقاء واستمرار الدين وجهاً لوجه للتفسيرات العلمية شيء طبيعي لأن قوة الدين له القدرة في اشباع رغبات الإنسان ليجعل العالم يشبه ما يتمنى أن يكون عليه , كما انه في الوقت نفسه ضابط لرغباته , ويرى فرويد ان هناك صراعاً دائماً بين الميول الغريزية وبين الميول الإنسانية , أي ان هناك صراعاً بين الدوافع الذاتية الفردية , وبين الدوافع الغيرية الجماعية , وعادة ما ينتهي هذا الصراع بغلبة الدوافع الإنسانية والحد من فاعلية الميول العدوانية , وهكذا تنشأ النظم المقيدة لهذه الدوافع الأنانية , مما يتمثل في نظم التابو السائدة في المجتمعات الإنسانية , على هذا الأساس يميز فرويد بين الجانب الفطري الموروث من الدوافع الغريزية في صورتها الهمجية ويطلق عليها (الإد Id) , وبين الجانب المكتسب من العمليات العقلية التي استقرت في اللاشعور التي ترجع الى التعاليم الدينية والخلقية التي تعمل على قمع ما تراه يتنافى مع الآداب العامة , ويطلق على هذا الجانب اسم (الذات الواقعيةEgo ) والتي تحاول أن توفق بين مبدأ اللذة أو النزاعات الدنيا , وبين مقتضيات الوسط الإجتماعي فتمثل في الفرد ما يطلق عليه (بالذات العليا Super Ego ) , وتتبلور فيها مجموعة الأوامر والنواهي , والمثل التي يلقاها الفرد من مصادر دينية اجتماعية , وهي التي تحول الميول العدوانية الى دوافع للترابط والوفاق الاجتماعي , بالرغم من وجود نوازع الكراهية الكامنة بين الذات الفردية , والذوات التي تحاول فرض ارادتها عليها , وبفضل هذه الذات العليا يحاول الفرد ان يمتثل الى النظم الاجتماعية , ويحترم أصحاب السلطة ويبجل كبار السن . ( )
ويعتبر فرويد (1856-1939) معاصراً لماكس وفيبر , لكنه بعيداً عن ان يكون متخصصاً في الأنثروبولوجيا وغير متخصص ايضاً في علم الإجتماع , إلا انه يستحق ان يذكره الجمهور بفضل مؤلفاته في مجال التحليل النفسي , وسنجد في (طوطمية وتابو 1912م ) و(مستقبل وهم1927 م) و (موسى والتوحيد 1939م) جوهر مفاهيم عن الدين كنظام يعكس الكبت والهوس العصبي للبشرية , وتشكل رغبة الحب ورغبة الجنس طاقات تدخل في تنمية المشاعر الدينية , فالسحر والدين هما في المقام الأول حالات نفسية , ويعتبر الدين والهوس عمليات مشابهة للصدمة النفسية والكمون , مع الشعور بالذنب يتبعها حالة تسام وعبادة للأب الذي ربما يقتله أبناءه ويأكلونه معبرين عن غضبهم بسبب القهر الجنسي الذي كان يفرضه عليهم , كما تعتبر أصل فكرة قتل الأب وتناول القربان والذبيحة الرافعة للذنب من محظ خيال فرويد , وتم الإعتراف تدريجياً بعدم قبول تفسير مذهب الطوطمية , وكذلك تفسير عقدة أوديب , ومن الناحية المنطقية يتعين ان تكون صورة الإله متنوعة وفقاً للمكانة التي يحتلها الأب في منظومة القرابة بدلاً من ان يكون إلهاً واحداً , ذلك ما بينه مالينوفسكي هادماً فكرة أوديب من خلال تحليل المجتمعات , حيث يؤخذ بعين الإعتبار النسب الأمومي وحده , وكذلك تحليل علاقات القرابة المختلفة لمجتمع فينّا . ( )
رابعاً / وجهة نظر كارل ماركس حول الدين :
على الرغم من الأثر الذي تركه ماركس في هذا المجال إلا انه لم يدرس الدين بحد ذاته بصورة تفصيلية , بل استقى أكثر أفكاره حول هذا الموضوع من كتابات عدد من الفلاسفة والمفكرين في القرن التاسع عشر , وكان من هؤلاء لودفيغ فويرباخ الذي وضع كتابه الشهير المسمى (جوهر المسيحية 1841م) , والدين في نظر فويرباخ عبارة عن أفكار وقيم أنتجها البشر خلال تطورهم الثقافي , ولكنهم أسبغوها على قوى سماوية أو إلهية , ونظراً لأن البشر لا يعرفون مصيرهم تمام المعرفة , فإنهم ينسبون الى أنشطة الآلهة ما سبق لهم أن أنتجوه في مجتمعاتهم من قيم ومعايير , من هنا , فإن قصة الوصايا العشر التي أنزلها الله على موسى هي مجرد نسخة أسطورية لأصول المبادئ الأخلاقية التي كانت في حياة اليهود القدماء ثم المسيحيين , ويضيف فويرباخ أنه طالما ظل البشر عاجزين عن فهم الرموز الدينية التي ابتدعوها , فإنهم سيظلون أسرى لقوى التأريخ التي لا يستطيعون التحكم فيها , ويستخدم فويرباخ مصطلح الإستلاب أو الإغتراب للدلالة على آلهة أو قوى إلهية متميزة من البشر , ذلك ان القيم والأفكار الإنسانية تُعزى في هذه الحالة الى كائنات غريبة ومستقلة , وقد ترك التغرب في الماضي آثاراً سلبية , غير ان فهم الناس للدين بإعتباره اغتراباً أو استلاباً من شأنه أن يفتح أبواب المستقبل , وحالما يتبين البشر ان القيم التي يرجعونها الى الدين انما هي من انتاجهم , فإن هذه القيم ستغدو ممكنة التحقيق على الأرض ولن يتم ارجاؤها الى الحياة الأخرى , ويمكن للبشر آنذاك أن يكتسبوا القوى التي ينسبها المسيحيون الى الله , فالمحبة والخير والقدرة على التحكم في حياتنا موجودة كما يرى فويرباخ في المؤسسات الإجتماعية , وقد تؤتي ثمارها حالما ندرك ونتفهم طبيعتها الحقيقية . ( )
ان الخطاب الماركسي حول الدين لا يتكون في الواقع فقط من تحليل سوسيولوجي لظاهرة الدين , انه يتكون ايضاً من نقد فلسفي وسياسي , خطاب هو وريث لفلسفة التنوير ولمنهج لودفيج فويرباخ (1804-1872) الذي قدم موجزاً أنثروبولوجياً للدين في كتابه (جوهر المسيحية) عام 1841 محللاً فيه (الإغتراب الديني) بوصفه إسقاطاُ وهمياً من قبل الإنسان لوجوده كإنسان وللوجود الإلهي , أما فيما يتعلق بالنقد السياسي فإنه يرى في الدين بشكل أساسي أداة تستخدم من قبل الطبقة المسيطرة من أجل إضفاء الشرعية على سلطتها ومن أجل منع أي تمرد من جانب المسيطر عليهم , ومن وجهة النظر السوسيولوجية نري ان الماركسية تعتبر الأديان كظواهر تنتمي الى البنية الفوقية لا تتمتع إلا بإستقلالية نسبية جداً بالنظر الى الأساس الفعلي للمجتمع قطاع الإنتاج المادي والعلاقات الإجتماعية التي تتشكل فيه , على الرغم من ان التحليل السوسيولوجي هو الذي يهمنا هنا , فإنه من الضروري مع ذلك تقييم النقد السياسي الذي عبر عنه (ماركس و انجلز) , ذلك ان النقد السياسي للدين يسيطر على منهجهما بشكل كبير في أغلب الحالات على التحليل السوسيولوجي للظواهر الدينية . ( )
لقد نقلت الماركسية عن فويرباخ مفهوم الإغتراب الديني الذي يقول بأن البشر هم الذين صنعوا فكرة الألوهية , فألزموا انفسهم بالخضوع لقوة خارجية مفارقة لذواتهم , وبسبب ذلك صار من الصعب عليهم تغيير النظام القيمي الأخلاقي الذي أقاموه بأنفسهم , وربط ماركس بين هذا المفهوم وفكرة الإغتراب الإقتصادي الناشئ عن الرأسمالية , فلم يرى في الدين أكثر من غطاء أيديولوجي يستر الإغتراب الإقتصادي سواء من قبل الطبقات المهيمنة التي توظفه بشكل تبريري , أو من قبل الطبقات المقهورة التي توظفه في الإحتجاج أو في التعويض . ( )
ويأخذ (ماركس) على الدين انه يفصل فصلاً قاطعاً بين حياة أرضية وحياة أبدية , ولهذا يدعوا الفقراء الى الإستسلام واليأس من الدنيا , يقول ماركس (الدين زفرة الخليقة المقهورة , وهو مزاج عالم بلا قلب , وهو الروح لأحوال بلا روح , أنه أفيون الشعوب , ان الفقراء ينتظرون الموت مستسلمين عاجزين , وينتظرون الجزاء في عالم آخر , ولهذا يقبلون , دون تردد ولا ثورة على أشكال الحكم الإستبدادية , وبقاء نظام الطبقات , ولا يسعون للإتحاد فيما بينهم من أجل تغيير العالم , وهكذا يغايرون أنفسهم بواسطة الدين , ويحال بينهم وبين الفعل , ولهذا ينبغي – على حدِ تعبير ماركس – على الانسان ان يتحرر من مغايرة الدين له , يقول ماركس : ان ازالة الدين , بوصفه السعادة الوهمية للشعوب , هي الشرط لتحقيق
أولاً - التأريخ العام للأديان حيث يتناول نمو وتطور اديان تأريخية معينة ويدرس مراحل هذا التطور ويحاول ان يفسر كيف ان هذه المراحل ما هي إلا انبثاقات من مسلمات كل عقيدة وتحتوي كذلك على التطور النفسي لمجتمعات دينية خاصه وتناقش كذلك المسائل المتعلقة بالعقيدة والشعائر والمؤسسين والدراسة في ذلك تركز على حقائق كما هي في هذه الأديان .
ثانياً - الدين المقارن حيث يركز حول تحليل انواع مختلفة من التجربة الدينية , وهذا ما يتم من خلال مقارنة الأديان لمعرفة التطورات النمطية والسمات المميزة والقوانين المتبعة فيها لذلك يقرر الباحث الأساسيات المحددة لمختلف الجوانب في الدين فإنه مُطالب بتحديد السمات الرئيسية في الأديان التأريخية , وعليه فإن اشكالية الإجتماع الديني وعلم النفس الديني وفلسفة الدين وغيرها من أمثال هذه الفروع كلها من العلوم المساعدة لعلم الدين لان كل منها يبحث في منطقة صغيرة في كينونة الدين ولا يمكن النظر للدين عبرها فقط . وقد طرح بعض المفكرين التطوريين الكثير من النظريات عن نشأة الأديان البدائية دون تمحيصها على ضوء الواقع الإجتماعي لهذه الجماعات ومن أهم هذه النظريات ما يأتي :
1- النظرية الإرواحية :
وهي النظرية التي قدمها تايلر وتفترض ان أصل الأديان ينبع من تجربة الأحلام والتخيلات التي أرشدت الإنسان البدائي الى اكتشاف مفهوم الروح الذي اتسع نتيجة استطراد فكر هذا الإنسان متجاوزاً أرواح الكائنات الحية الإنسانية والحيوانية والنباتية الى الأشياء غير المادية والقوى الغيبية غير المرئية والمجردة . ( )
حيث قدم تايلور تفسيراً نفسياً و إجتماعياً في آن واحد وهو حاجة الإنسان القديم لفهم طبيعة الأحلام والنوم الموت , وقد دفعته هذه الحاجة الى التوصل الى مفهوم (الروح) , ثم قاده هذا الإكتشاف الى ان الأرواح تغادر الأجساد بشكل مؤقت , كما هو الحال في النوم , أو تغادر بشكل نهائي كما في (الموت) , وحين يموت الإنسان تغادر جسده إلا انها تبقى تحوم في المكان نفسه , وتكون مصدر قلق للأحياء مما دفعهم ذلك الى التقرب منها وتقديم الأضاحي خوفاً من الأذى الذي تلحقه بهم , وهكذا بدأت عبادة الأجداد .( )
2- النظرية الحياتية :
وترجع الى الأستاذ ماريت الذي يعتقد بأن هناك مرحلة سبقت ظهور مفهوم الروح وهي مرحلة مفهوم الحياة , فالإنسان الأقدم بإعتقاده ظل لا يفهم القوى المجهولة والخفية التي تزخر بها الطبيعة , وصار يتخيل هذه القوى غير الشخصية , فعزى لها طاقة أو قوة حيوية مؤثرة هي صنف من المانا اي قوة طبيعية دينامية مجردة كالتي يعتقد بها سكان جزر اوقيانوس في المحيط الهادي .( )
حيث تميز ماريت بفكر غني متشبع بفهم الموضوع كما يتضح ذلك في كتاباه (عتبة الدين) 1909 و (علم النفس والفولكلور) 1910 , فالحركية التي يقترحها ترتكز على مصدر السببية وعنصرها الفاعل الذي يختلف عن الحركية في نواميس الطبيعة , فنراه في هذا الإطار من المعنى يسبب الدور الأهم في سببية الفكرة الدينية , لا الى الأرواح المشخصة بالصورة الملائمة , ولكن الى قوى غير مشخصة , فمثلاً الإعصار لا تسكنه الروح ولكنه حي بنفسه , ثم تقوده هذه الفكرة الى تقرير المبدأ التالي : الأرواح والإلهة خلائق الإنسان احدثتها ضرورة تأسيس نظام اجتماعي على عناصر يفترض فيها ان تتجاوز طاقة الإنسان . ( )
3- نظرية عبادة الأشباح :
وهي فكرة الأستاذ هربرت سبنسر عن أصل الأديان , وهو يرى ان هذا النوع هو الأقدم , وقد انبثق كما اعتقد من الأهمية التي كانت تضفيها الجماعات القديمة على أسماء ملوكها وأبطالها وأجدادها .( )
ويرى سبنسر ان عبادة الأسلاف أقدم من عبادة الأشياء الطبيعية ان الإنسان البدائي كان يرى في أحلامه صورة أبيه الذي مات , وهو كذلك يستطيع ان يتصوره في اليقظة , وان روح أبيه يمكن ان تنفعه اذا رضيت عنه , أو ان تسخط عليه اذا لم ترض , ولذلك فقد حاول الإنسان البدائي جاهداً ان يسترضي هذه الأرواح , أي أرواح الأسلاف , ومن هنا نشأت القرابين . ( )
4- نظرية السحر :
وقد صاغها الأستاذ جيمس فريزر الإنكليزي , وهي تُرجع ظهور الأديان البدائية الأولى الى فشل السحر في تحقيق ما كان يصبوا اليه الإنسان من سيطرة على ظواهر الطبيعة مما دفعه الى الإعتقاد في وجود قوى فوق طبيعية خارقة لا تخضع لإمكانيات السحر , مما اضطره الى ان يُذعن لها ويتقيها . ( )
فنشأة الدين من وجهة نظر فريزر بأن الإنسان لجأ الى الدين لا خوفاً من الطبيعة بل رغبة منه في أن يسيطر عليها , وان السحر سبق الدين في ظهوره , وان الدين سبق العلم . ( )
5- نظرية عجز اللغة :
ان واضع هذه النظرية هو الأستاذ ماكس مولر , وهي تشير ان أصل الفكر الديني يعود الى علة اساسية في اللغة تنطوي على اضفاء صفات العقل والقصد والإرادة على الظواهر الطبيعية كالعواصف والبراكين والزلازل مما دفع الإنسان تدريجياً الى الإعتقاد بأن هذه الظواهر وأمثالها تتسم بالعقل .( )
فهي تمثل عبادة بسيطة للظواهر الخارقة للطبيعة يُعتقد انها تتمتع بقدرات كونية , والتي تظهر أحياناً مجسدة , كذلك يمكن اعتبارها موقفاً كونياً لفهم العالم , بإعتباره مجموعة من الرسائل التي تحتاج الى تفسير. ( )
6- نظرية الضعف الإنساني :
ويرى واضع هذه النظرية الأستاذ بروس بأن الإنسان الأقدم ظل فترة طويلة يعاني من عجزه عن كبح جماع الطبيعة , وقد دفعه تخلفه التكنولوجي الى الإعتقاد بسطوة الطبيعة , وحتمية خضوعه لها والحاجة الى جعل صلاته بها مبنية على العبادة والخشية .
7- نظرية عبادة الأجرام السماوية :
تفترض هذه النظرية ان أقدم الأديان انطوت على عبادة الأجرام السماوية خصوصاً الشمس أو القمر نتيجة التصور البشري بوجود سمات عقلية في هذه الظواهر , ويطلق على هذا النمط من الاديان (بالوثنية النفسية) .
8- نظرية الغريزة الدينية :
ان نشأة الأديان كما تقترح هذه النظرية كانت حصيلة غريزية دينية فطرية دفعت الإنسان الى الحس بالحاجة للأديان لمواجهة مخاوفه من القوى الغامضة التي تغلف وجوده في الطبيعة .
9- نظرية الطوطم :
وهي للعالم الفرنسي دوركهايم وتُرجع اصل الأديان البدائية الى حاجة الإنسان للتضامن الإجتماعي , وقد توصل الإنسان حسب رأي هذا العالم الى فكرة الطوطم بوصفه اقدم الرموز الدينية التي جاءت لتجسيد مفهوم الوحدة الإجتماعية لدى الجماعات . ( )
وعلى حد تعبير دوركهايم في كتابه (الصور الأولية للحياة الدينية) , فإن الدين مسألة اجتماعية وليس مسألة فردية , وإن الحيوانات الطوطمية كانت تُقدس في أستراليا على اعتبار أنها ترمز الى وحدة الجماعة أو العشيرة , وتقديسهم للطوطم كانوا يقدسون العشيرة ذاتها أي المجتمع نفسه , وفي احترامهم للطوطم كانوا يعبرون في الواقع عن علاقة أفراد المجتمع بالمجتمع ذاته , على ان المجتمع هو مصدر التقاليد الخلقية مثلما هو مصدر لوجودهم نفسه , كما ان الهة القبيلة تمثل لنا نظام المجتمع القبلي ذاته . ( )
10- نظرية الإله الأعلى :
وقد اقترحها المفكر الألماني وليم شمت , وفحواها ان الديانات الأولى كانت تعتمد على نظام عبادة الاله الواحد , غير انها تدهورت وتشوهت في ظنه مع مرور الزمن وصارت ترتكز على مبدأ تعدد الآلهة .
11- نظرية تمجيد الملوك :
ويعتقد أصحابها الإنتشاريون الإنجليز بأن الدين جاء نتيجة للإعتزاز بذكرى الملوك بعد موتهم , وقد استحال الإعتزاز الى الرغبة بالتخليد ثم تطورت الفكرة وتحولت الى تخليد هذه الذكرى , وعندها أصبح الملك موضع احترام مقدس .
12- نظرية التجربة الطفولية :
صاحب هذه النظرية هو الأستاذ سيغموند فرويد الذي يعتقد ان الدين قد تمخض عن تجربة الطفولة الأولى التي تعرضت لها البشرية الأولى في القدم , وتدور هذه التجربة حول تآمر الصبية في أول زمرة انسانية على زعيم الزمرة - ابيهم – وقتله
وكان لهذا الجرم أثر عميق في نفوسهم ادي قيما بعد الى شعورهم بالندم وتأنيب الضمير, ونتج عن هذا ان تعاضمت شخصية الأب القتيل في ضمائر الأبناء , مما حدى بهم الى تخليد ذكراه عن طريق عبادته , وقد مثلوا له بالطوطم الذي أصبح رمزاُ يشير الى مكانته في أذهانهم وتدور حوله طقوسهم الروحية . ( )
واستنتج فرويد في كتابه (طوطم و تابو) ان قتل الأب حرّمة تناول الطوطم , وربط حرمة جماع الأم بقاعدة طوطمية , خاصة بالزواج من خارج العشيرة , لكن ما الدليل على هذا القتل المزعوم أصلاً للأب ؟ , بالإضافة الى ان الزواج من الأقارب لا يتعلق فقط بالعلاقة الجنسية مع الأم , ومن محض الخيال , بين تناول الأغذية وإقامة علاقة جنسية , خاصة ان الطوطميات لا تحرم دائماً الأغذية , ورغم ذلك , فمن الصحيح ان الفكر الطوطمي يتضمن مواقف طقوسية تتعلق بالإحترام والتقوى , وأيضاً بطاعة التعليمات والمحرمات مثل كل الأديان , ولا يدل ذلك على قدم الطوطمية مقارنة بالأديان المنظمة أو أديان الخلاص (المسيحية) . ( )
13- نظرية القربان :
وتقدم بها روبرتسن سمث وهي تنص على ان الدين الأول قد نتج عن مفهوم القرابين , فقد ابتكر الإنسان هذا المفهوم ليكون همزة الوصل بينه وبين القوى الفوق طبيعية , وبينه وبين افراد جماعته التي تأكل من لحم القربان . ( )
المبحث الثاني / الإتجاهات النظرية في دراسة الدين
أولاً / الإتجاه الوضعي العقلاني
يُعد هذا الإتجاه نموذجاً ناجحاً في دراسة الدين , ذلك لأنه تجنب نواحي القصور التي وجدت في الإتجاه الوضعي , حيث انه جمع مزايا الإتجاه العقلاني , فقد وضع نموذج الفكر الوضعي تحديدات قوية على نوعية ومغزى الظاهرة الدينية , ففي اطار هذا الإتجاه يوجد نموذجان للتفسير النظري للظاهرة الدينية :
الأول – يُعالج الظاهرة الدينية على أنها إظهار للعوامل البيولوجية والسايكولوجية للوصول الى الضبط العقلي أو تفسيرات في ضوء مفاهيم , وعادة يقوم هذا النمط الى رؤية لنظرية غريزية تلبث ان تعاني من قصور علمي شديد , فهي لا يمكن ان تبرهن عن امكان ربط تفاصيل التغيرات التي تُظهر سلوكيات الظاهرة بما يطابقها من تغيرات في بناء الدوافع الغريزية .
الثاني – حيث تختلف العقلانية عن الوضعية في انها تتجه الى معالجة الفاعل على انه باحث عاقل يفعل في رُشد وفي ضوء المعرفة المتاحة له , فقد سلك سبنسر وتايلور هذا المسلك في معالجتهما للسحر البدائي والأفكار الدينية , وذهبا الى أن السحر البدائي والأفكار الدينية هي أفكار في مستوى الإنسان البدائي , مع الأخذ بالإعتبار القصور في تراكم المعرفة , التكنيك المحدود , وقلة فرص الملاحظة التي يعايشها الإنسان البدائي , فالإعتقادات المتمثلة في انفصال الروح من الجسد والممارسات الطقوسية تشير الى نمط من التفكير , لذلك فالمعتقدات الدينية السحرية والممارسات الجماعية يمكن ان تتغير مع التقدم العلمي , وقد برهن هذا النموذج على ان يكون نقطة البداية في تطور هذا الإتجاه , لأنه جعل من الممكن تحليل الفعل في ضوء مفاهيم وجهة النظر الذاتية للفاعل في توجيهه لملامح معينة في الموقف الذي يتحرك أو يفعل فيه , أن الإتجاه الوضعي العقلاني جمع بين النموذجين السابقين , حيث يظهر هذا الإتجاه جلياً في اسهامات كلٍ من دوركهايم وماكس فيبر . ( )
1- دوركهايم :
ترجع الجذور الفكرية الأساسية لدراسة دوركهايم للدين الى كلٍ من (فوستيل دي كو لانج) , و (روبرتسون سميث) , فالأول أرجع الجوانب السياسية والبناء الكلي للمجتمع الى المعتقدات الدينية التي تحدد التنظيم الإجتماعي , أما الثاني فيرى أن الدين البدائي هو كيان اجتماعي , فالأفراد لا يختارون مجموعة معتقدات لتفسير الأشياء , ولكن يولدون في مواقف اجتماعية حيث الأفعال الدينية الموجودة المتوارثة , ففي المجتمع القبلي لا توجد علاقة خاصة فردية بين الآلهة , ولكن الأفعال الشائعة المقدسة تربط الأفراد بعضهم ببعض في الجماعة مع الإله أو الآلهة التي يقدسها المجتمع ككل , ويرى دوركهايم ان الضبط الإجتماعي والوجود الإجتماعي ذاته يركز على مفهوم الشعور الجمعي , وان المنطق يُخلق ويُقوى في كل مجتمع بواسطة الدين , وفي العمل الذي اشترك به مع (مارسيل موس) في تصنيف البدائي , أوضح دوركهايم ان الدين يمدنا بالفهم وبدونه لا نستطيع ان نفكر , فالأديان أنساق من الأفكار التي تعطينا فهماً كاملاً عن العالم , ولم يُثر دوركهايم أي مناقشة حول صدق الأفكار الدينية , لأنه يرى أن الأفكار الدينية تُعبر وتُحقق الحاجات الإجتماعية , ووفقاً لهذا فهي لا يمكن أن تكون غير حقيقية أو غير صادقة . ( )
ويمكن اعتبار مؤلفه المسمى (الأشكال الأولية للحياة الدينية 1912م) من أبرز الأعمال المؤثرة في علم الإجتماع الديني , ولا يربط دوركهايم الدين بالتفاوت الإجتماعي أو السلطة , بل يدرس علاقته بطبيعة المؤسسات المجتمعية , ويركز عمله على دراسة الطوطمية التي يمارسها سكان استراليا الأصليون بإعتبارها تمثل الأشكال الأولية للدين , فالطوطم حيوان أو نبات يُجسد قيمة رمزية للجماعة ويحظى بالإجلال و الإحترام لان له طابعاً مقدساً تتبلور حوله منظومة من الأنشطة الطقوسية المتنوعة , ويعرف دوركهايم الدين عن طريق الفصل بين ما هو مقدس من جهة وما هو مدنس من جهة اخرى , ويتعامل الناس مع الأشياء والرموز المقدسة بمعزل عن الجوانب الروتينية اليومية التي تدخل في باب المدنس , ويحظر في هذه الحالة أكل الطوطم من الحيوانات أو النبات إلا في مناسبات احتفالية معينة , كما ان الناس يسبغون على الطوطم خصائص إلهية تميزه تماماً عن أنواع الحيوانات الأخرى التي يمكن اصطيادها أو المحاصيل الأخرى التي يمكن التقاطها واستهلاكها . ( )
وكان دوركهايم يعتقد ان الدين سينحسر مع تطور المجتمعات الحديثة , وسيحل مكانه التفكير العلمي , وبشترك دوركهايم مع ماركس في الرأي بأن الدين التقليدي , أي الإيمان بآلهة أو قوى علوية هو على وشك الإختفاء , ويقول دوركهايم في إحدى عباراته المشهورة : ( لقد ماتت الآلهة القديمة ) , غير انه يعترف ان الدين قد يستمر , وان كان ذلك بأشكال بديلة أخرى , وما زالت المجتمعات الحديثة تعتمد على الممارسات الطقوسية لتأكيد تماسكها الإجتماعي وقيمها الأساسية , ولم يتخذ دوركهايم موقفاً واضحاً من الأشكال البديلة المحتملة للعقائد الدينية التقليدية , غير انه ألمح أكثر من مرة الى أن الشعائر البديلة ستدور حول القيم الإنسانية مثل (الحرية والمساواة والتعاون الإجتماعي) . ( )
ويركز دوركهايم في معالجته لموضوع الدين في ثلاث محاور رئيسية وهي :
المحور الأول- الأسس الإجتماعية للدين :
كان تفسير دوركهايم لطبيعة الدين تفسيراً اجتماعياً خالصاً , وعليه فقد انتقد النظريات الفردية والنفسية التي حاولت تفسير ظهور المعتقدات الدينية عن طريق العوامل البيولوجية كالأحلام والرؤيا , وكذلك النظرية الطبيعية لماكس مولر التي تذهب الى ان الدين يرجع الى العوامل الطبيعية والكونية , ويرى دوركهايم ان هذه النظريات فشلت في تقديم تفسير للدين والتفرقة بين ما هو مقدس وما هو دنيوي , وينظر دوركهايم الى الأفكار والممارسات الدينية على انها تشير وترمز الى الجماعات الإجتماعية , كما اعتبر المجتمع المنبع الأصلي للدين , ولذلك عرف الدين بأنه نسق موحد من المعتقدات والممارسات التي تتصل بشيء مقدس وهذه المعتقدات و الممارسات في مجتمع أخلاقي واحد ويضم كل الذين يرتبطون به .( )
المحور الثاني – الصور الأولية للدين :
يرى دوركهايم ان الديانة الطوطمية هي الصورة البسيطة و الأولية للدين , وفي هذه الديانة يُعتبر الطوطم هو الرمز الذي تتخذه العشائر البدائية لنفسها , سواء أكانت مُستمدة من المملكة الحيوانية أو النباتية أو القوى الطبيعية أو الجماد , وأهم العناصر في الطوطمية تكمن في ان أفراد العشيرة يعتقدون أنهم منحدرون من هذا الطوطم , فهو الأصل في وجودهم , ويترتب على ذلك أن الأفراد الذين ينتمون الى نفس الطوطم يعتبرون انفسهم أقارب فيما بينهم , ومعنى ذلك أن القرابة لا تقوم على أساس وحدة الدم , وانما تربط أفراد العشيرة وحدة قرابية معنوية , تقوم على أساس اشتراكهم في نفس العادات والتقاليد والطقوس الدينية التي يلتزمون بأدائها نحو الطوطم , وتقوم الديانة الطوطمية على أساس تقديس طوطم العشيرة تقديساً يحرم قتله أو صيده اذا كان من المملكة الحيوانية , ويحرم أكله اذا كان من المملكة النباتية .
المحور الثالث – الوظائف الإجتماعية للدين :
حدد دوركهايم الدين بناءاً على وظائفه الإجتماعية في معالجته للظاهرة الدينية , وكان تركيزه منصباً على الشعائر والأفعال أكثر من المعتقدات , ويرى أن وظيفة الدين هي ربط الأفراد بمجتمعهم بقوة عن طريق : الفهم Comprehend أي فهم الواقع والعلاقات الإجتماعية , والإتصال Communicate بمعنى اتصال الأفراد بعضهم ببعض على أساس من المفاهيم المشتركة , والتحديد Specify اي تنظيم الأفكار والعلاقات الإجتماعية عن طريق هذه الأشياء يتقبل الأفراد الدين على أنه شيء ملزم ومطلق . ( )
2- ماكس فيبر :
يعد إسهام ماكس فيبر في مجال الدين إسهاماً نظرياً عظيماً , فقد اهتم بدراسة العلاقة بين الدين و الإقتصاد , وكان يرمي من وراء هذه الدراسة الكشف عن طبيعة العلاقة بين الظاهرتين , هل الإقتصاد يؤثر على الدين كما يؤكد ذلك أصحاب التفسير المادي , أم أن الدين يؤثر على الإقتصاد , أم أن هاتين الظاهرتين تتبادلان التأثير والتأثر , وقد توصل فيبر في دراساته الى ان هناك تأثيراُ متبادلاً بين الظواهر الدينية والظواهر الإقتصادية , وقد انصب اهتمام فيبر على دراسة الأخلاقيات الإقتصادية للدين , وتناول الأخلاقيات الإقتصادية لست ديانات عالمية : الكونفوشيوسية والهندوسية واليهودية والمسيحية والإسلامية , ثم درس طبيعة الأخلاقيات الإقتصادية في كل منهما , وآثارها على التنظيم الإقتصادي والحياة الإجتماعية للشعوب التي تنتمي الى هذه الديانات . ( )
كما انه درس آثار المسيحية في تأريخ الغرب في عدة مؤلفات من أبرزها (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية1904 م-1905 م) , وتختلف كتابات فيبر عن الدين عما وضعه دوركهايم من ناحية تركيزها على الترابط بين الدين والتغير الإجتماعي , وهو المجال الذي لم يتطرق اليه دوركهايم , كما أن فيبر يعارض الموقف الذي اتخذه ماركس , اذ يرى أن الدين لا يمثل بالضرورة قوة محافظة , بل ان بعض الحركات والتوجهات الدينية التي تستلهم جانباً من تعاليم الدين قد أحدثت تحولات اجتماعية مثيرة في المجتمعات الغربية , فقد كانت البروتستانتية , ولا سيما الإتجاه التطهري البيوريتاني منها , المنبع الأساسي للنظرة الرأسمالية في المجتمعات الغربية الحديثة , و كان أوائل المبادرين بالمشروعات التجارية من أتباع الزعيم البروتستانتي (كالفن) , وكانوا في اندفاعهم لتحقيق النجاح الذي أسهم في انطلاق التنمية الإقتصادية الغربية , يصدرون عن رغبة في خدمة الله , وكان النجاح المالي المادي بالنسبة اليهم علامة من علامات العناية الإلهية . ( )
يدفع فيبر بأن الكلفانيين ومسيحين متزمتين آخرين لشعوب القرنين السادس عشر والسابع عشر كوّنوا وجهة نظر عن الحياة تناسب عن قرب صورة الرأسمالي الكامل , لقد اعتقد الكلفانيين ان حياة الإنسان مقدرة له , وأن ثمة قلة اصطفاها الرب للخلاص , لكنه مستحيل للكائنات البشرية أن تستوعب لماذا ينبغي ان يكون هذا , إن رب كالفن كان بارداً وصارماً , كان يتطلب الطاعة , ولكن لن يشرح , وحسب رأي فيبر فإن هذا الغموض المقترن بالمذهب عديم الرحمة يخلق توتراً لا يحتمل في حياة الكلفانيين , باحثين عن حلول , يجول في خاطرهم أن العمل الشاق المقترن بطريقة العيش المقتصدة فقط هو الذي يمكنه أن يقربهم من نعمة الله , كان مفروضاً عليهم أن يحققوا نتاجات , ولكن حرم عليهم أن يتذوقوا ثمار عملهم , وبدلاً من ذلك يعيدون استثمارها في مشروعهم مُحدثين حلزوناً من الأرباح المتزايدة لقداسة الرب , إن رأي فيبر لا يعني بالضرورة أن الكالفينية هي السبب في الرأسمالية , فقد كانت هناك اسباب عديدة تبرر نشأة الرأسمالية , كما أن اعادة الإستثمار ليست بأية حال من اختراع الكلفانيين , لقد كان الرأي الأصوب أن الكلفانية وبمفهوم اوسع البروتستانتية في مجملها شكلت ايديولوجيا بررت و أيضاً مجدت الأخلاق الرأسمالية . ( )
ومع ذلك فإن المذهب الكالفيني المتعلق بالقدر والإحسان يمكن أن يؤدي الى خلق عقلية معارضة للروحانية لدى المؤمنين جاعلاً من العمل واجباً , ومن النجاح إشارة الى الإختيار , ومن الإثابة رفض فضيلة , ويتلازم البحث عن الربح مع جهد لعدم التمتع بالثروة , بل وضع الأرباح في مشروع , وهذا من شأنه الى ميلاد عقلية عقلانية تتعلق بالرجل الرأسمالي الحديث . ( )
ويحدد فيبر القيم الأخلاقية للديانة البروتستانتية في المبادئ التالية :
أ- مبدأ العمل – حيث ترى الكالفينية أن العالم وجد من أجل خدمة الله , فلا شك أن هذا المبدأ ينظم الحياة الإجتماعية الدنيوية , والعمل لا يمارس لخدمة المصلحة الشخصية , بل للمصلحة العامة , وفي هذا تعزيز لمجد الله وتحقيق لإرادته .
ب- مبدأ الثقة بالنفس – على الإنسان ان يثق بذاته , وأن يحارب كل الشكوك , لأن عدم الثقة بالنفس تنجم عن الإيمان الناقص والحالة الدينية غير الكاملة , ولا تأتي هذه الثقة إلا من خلال النشاط الدنيوي المكثف الذي يُعد أفضل وسيلة للتخلص من الشكوك الدينية , والتأكد من رحمة الله .
ت- مبدأ القضاء والقدر – ان الأفراد وجدوا من أجل الله , الذي هو حر لا يخضع لأي قانون , وهو الذي يحدد مصير كل فرد , ولذلك فلا ضرورة للمعايير والقوانين الوضعية .
ث- ضرورة تخلص الإنسان من دوافعه غير الرشيدة , وايمان الفرد يتحدد من خلال أعماله الدنيوية .
ومن خلال هذه المبادئ الأخلاقية والقيم التي أتت بها الديانة البروتستانتية خلُص فيبر أن الروح الرأسمالية بالشكل الذي حدده قد تشكلت من خلال الديانة البروتستانتية , وحاول فيبر تأييد استنتاجه من خلال تحليل تأريخ بعض الدول البروتستانتية , فمنذ عصر الإصلاح كانت الدول الرائدة اقتصادياً , هي تلك التي تسودها العقيدة البروتستانتية مثل هولندا , انكلترا , أمريكا , في حين ظلت الدول الكاثوليكية أو غير البروتستانتية متخلفة نسبياً , وقد فسر فيبر ذلك بأن العقيدة البروتستانتية في تلك الدول كانت تدعيماً وتثبيتاً لأشكال النشاط
الذي يعتبر ضروري لإقامة وإدارة المشروعات الرأسمالية الحديثة , وقد دعمت البيانات الإحصائية آراء فيبر , وأوضحت أن السكان البروتستانت في ألمانيا تتميز حالتهم الإقتصادية بأنها أفضل من غيرهم , واذا كان فيبر قد أثبت أن الديانة البروتستانتية ساهمت في ظهور النظام الرأسمالي الرشيد , فقد حاول أن يثبت في دراسته للإسلام أن بناءات المجتمعات الإسلامية لا تتضمن العناصر البنائية الضرورية القادرة على بلورة نظم رأسمالية متطورة لأن نظرة فيبر للإسلام قاصرة , وقد تأثر بالأفكار العامة التي كانت سائدة في أوروبا خلال القرن التاسع عشر , وهي الأفكار التي تميل الى وصف المجتمعات الشرقية بعدم الإستقرار السياسي و الإقتصادي , فضلاً عن الجمود الفكري والتخلف الثقافي .( )
ثانياً / الإتجاه الأنثروبولوجي :
1- مالينوفسكي :
يرى مالينوفسكي أن الدين والسحر إستجابات للضغوط العاطفية , والدين لا يستمد أساسه من المجتمع نفسه , ولكن من الحاجة الى مجتمع مستقر يجد إجابة لحاجات أفراده العاطفية , فالوظيفة الأساسية للدين عند مالينوفسكي هي اتجاهات قيمية عقلية Valuable mental attitudes)) , فالطقوس المرتبطة بالموت تعمل على تقوية الرابطة بين الأحياء بعضهم ببعض , كما تحميهم من حالة إنعدام المعنى المحيط بالحياة الإجتماعية , فالدين قوة هامة للضبط الإجتماعي , وهذا لا يرجع الى أنه منبثق من المجتمع , ولكن لأنه يقدم للأفراد الإجابة والإنضباط التي يحتاجون اليها في أوقات أزماتهم , وقد قادت النزعة النفسية الوظيفية مالينوفسكي الى القول انه بالرغم من أن معظم الأديان تُمارس بصورة جماعية وتهتم بالمجتمع , فإن في الشعوب البدائية يوجد بعض التجارب الدينية الخاصة سببها حاجات فردية شأنها شأن الحاجات الإجتماعية . ( )
ويُعد مالينوفسكي من جيل العلماء الأنثروبولوجيين الذين تخلو منذ 1930 تقريباً عن البحث في جوهر الأديان وأساسها وأصلها للمشاركة في البحث في نفعية الديانات المختلفة من خلال دراسات لحالات محددة , حيث ظهرت في مؤلفاته : (سحر البساتين 1935م , وأساطير 1948 م , و تروبرياندي دي ميانيزي) .( )
ويرى مالينوفسكي رائد النظرية النفعية ان مجمل العقائد والممارسات تشكل وحدة نفعية مترابطة وواضحة ومنطقية في إطار المفهوم الذي من داخله يفكر المجتمع في الطبيعة , والوضع الإجتماعي , ويحمي في الوقت نفسه النظام المطبق , ويعبر السحر والدين عن كل الجهود الإنسانية حتى تتحقق الرغبات حتى ولو بطريقة وهمية , فهي تتعلق بالمقدس المحاط بأوامر ومحرمات لكن ترمي مثل العلم الى أهداف عملية . ( )
حيث يختلف مالينوفسكي عن الكثير من علماء الإنسان والأثنولوجيين من أمثال دوركهايم وراد كلف براون وليفي برول , فهو يرى ان بحث الأديان ينبغي ان يتم على أساس ارتباطها الوثيق بالتركيب الثقافي للبشر بإعتباره بناءاً موجهاً لإرضاء حاجات الناس الأساسية الكامنة في الشخصية , وليس كما يرى براون من انها تجسد الضوابط التي لا تُفهم إلا من خلال ارتباطها بشبكة العلاقات الدائرة في فُلك البناء الإجتماعي , أو كما يصورها ليفي برول من أنها تجسد العقلية اللامنطقية للجماعات الأمية أو البدائية .
كذلك يرفض مالينوفسكي افتراض (ماكدوكل) من ان أهمية الأديان البدائية ترجع الى غريزة معينة في الإنسان تنطوي على الميل الروحي الفطري , وفرضية ادورد تايلر التي تبحث اصل الدين من زاوية الأحلام التي اعتبرها التجربة الفكرية الأولى التي أوحت للإنسان الأقدم بمفهوم الأرواح وأدت فيما بعد الى ظهور الأديان , كما لا يتفق مالينوفسكي ورأي العالم الألماني (فوندت) القائل بأن النزعة الدينية تنبع من عواطف الرهبة والخوف , ونظرية دوركهايم من ان الأديان تُجسد قوة المجتمع وسيطرته على أذهان الأفراد وسلوكهم , فكل هذه الآراء والفرضيات تتطرق الى الحاجات الإنسانية التي ترضيها الأديان إلا انها تطرحها كما لو كانت مسائل جانبية لا تستحق أكثر من الإهتمام الثانوي والعرضي . ( )
وقد ميز مالينوفسكي بين الدين السحر , فقد أشار الى أن السحر له نهاية في المهمة التي قام من أجلها , وقارن بين الطقوس السحرية التي تقام لمنع موت الطفل وبين الطقوس الدينية التي تقام لتبارك مولد طفل فالأولى لها غرض عملي محدد ويكون معروفاً للقائمين بهذه الطقوس , أما الثانية فهي ليست وسيلة بل هي غاية في حد ذاتها , فالطقوس الدينية تعبر عن مشاعر , ويوجز مالينوفسكي أوجه التشابه بين الدين والسحر فيما يلي :
أ- يتشابه الدين والسحر في ان كلاً منهما يقوم بوظيفته في مواقف الضغوط العاطفية .
ب- كل واحد يشكل مجالات لهروب الأفراد اليها من مواقف الضغوط لما تقدمه من طقوس , ومعتقدات تعكس سيطرة ما هو وراء الطبيعة .
ت- كل واحد يرتكز على الميثولوجيا .
ث- كل واحد يوجد في مناخ اعجازي .
ج- كل واحد محاط بالتابو (المحرمات) والملاحظات التي تميز أفعاله عن غيرها في العالم الدنيوي .
ويختلف الدين عن السحر في :
أ- السحر يهدف الى غاية عملية , في حين ان الدين هو غاية في حد ذاته .
ب- المعتقدات السحرية بسيطة , في حين ان الدين يقدم جوانب وأغراضاً متعددة ومعقدة , فهو أكثر تنوعاً وأكثر خلقاً .
ت- السحر يمد القدرات العملية للإنسان , فوظيفته إضفاء القدسية على تفاؤل الإنسان ليزيد من ايمانه بأنتصار الأمل على الخوف .
ث- الدين يمد الناحية الأخلاقية في الإنسان عن طريق تزويده بالإتجاهات العقلية القيمية , مثل الشجاعة والثقة في حالات الصراع مع المصاعب وفي حالات الموت . ( )
2- راد كليف براون :
يختلف براون عن مالينوفسكي , فحين يركز مالينوفسكي على دعوى أن الإنسان له حاجات نفسية وبيولوجية , والتي يجبران تشبعها الثقافة حتى يستمر ويبقى المجتمع , نجد ان براون قد حل محل هذا النموذج رؤية وظيفية اجتماعية , والتي ينظر فيها الى انها ابنية عضوية ومجموعة من الحاجات التي تشبع فيها جميع الثقافات القائمة . ( )
ان البينة الإجتماعية كما يرى براون تنقسم الى مؤسسات منفصلة أو نظم فرعية مثل النظم المخصصة لتوزيع الأرض وتوريثها , والنظم المخصصة لفض النزاعات , والمخصصة لتأميم وتقسيم العمل في الأسرة , والنظم المخصصة عن تأمين القواعد الدينية جميعها تساهم في حفظ البنية الإجتماعية ككل , ووفقاً لبراون فإن هذا يُعتبر وظيفتها وسبب وجودها . ( )
وتقوم نظرية براون عن الطوطمية الخاصة بالنظام الديني بأنها تستند على مجموعة من القضايا التي تبدأ بمسلمات أساسية مفادها :
أ- ان هناك في كل المجتمعات الإنسانية وفي كل الأنماط المختلفة ميلاً الى التمايز في مقابلات الوحدات الأخرى الخارجية .
ب- ان تلك الجماعات في حاجتها الى ابراز ذلك التمايز فإنما تحقق ذلك في اختلاف شعائرها وطقوسها بصفة عامة ونظامها الديني بصفة خاصة عن الشعائر والطقوس والنظم الدينية في تلك الوحدات المجتمعية .
ت- ان في تلك المجتمعات البدائية التي تستند في اشباع حاجاتها الأساسية على الاستهلاك المباشر لما تقدمه البيئة الطبيعية من النبات والحيوان , فإن تلك النباتات والحيوانات تصبح موضوعاً للتقديس والتحريمات الإجتماعية , لما لها من قيمة عالية في حياة تلك المجتمعات . ( )
فالفرق بين مالينوفسكي وبراون , أن الأول (مالينوفسكي) يهتم بشيئين :
1- الموقف الذي انبثقت فيه الشعائر.
2- الوظيفة التي تؤديها الشعائر بمجرد اقامتها .
أما الثاني (اي براون) لا يهتم بالموقف الذي فيه تتولد الشعائر , ولكن اهتمامه ينصب على كيف تؤدي هذه الطقوس وظائفها في اثارة وتهدئة القلق بمجرد اقامتها .
إن اختلاف كل منهما أثار اهتماماً الى حقيقة هامة : هي ان الشعائر ليست ردود فعل لمواقف الخطر , ولكنها انجازات لتوكيد التنظيم الديني . ( )
ثالثاً / الإتجاه النفسي :
يعتبر النموذج الفرويدي من أكثر النماذج انتشاراً في الدراسات النفسية , وينظر فرويد الى الدين مثل نظرة ماركس على انه شيء مخدر يعطي معنى زائفاً لعالم بلا قلب , فإن فرويد يرى ان بقاء واستمرار الدين وجهاً لوجه للتفسيرات العلمية شيء طبيعي لأن قوة الدين له القدرة في اشباع رغبات الإنسان ليجعل العالم يشبه ما يتمنى أن يكون عليه , كما انه في الوقت نفسه ضابط لرغباته , ويرى فرويد ان هناك صراعاً دائماً بين الميول الغريزية وبين الميول الإنسانية , أي ان هناك صراعاً بين الدوافع الذاتية الفردية , وبين الدوافع الغيرية الجماعية , وعادة ما ينتهي هذا الصراع بغلبة الدوافع الإنسانية والحد من فاعلية الميول العدوانية , وهكذا تنشأ النظم المقيدة لهذه الدوافع الأنانية , مما يتمثل في نظم التابو السائدة في المجتمعات الإنسانية , على هذا الأساس يميز فرويد بين الجانب الفطري الموروث من الدوافع الغريزية في صورتها الهمجية ويطلق عليها (الإد Id) , وبين الجانب المكتسب من العمليات العقلية التي استقرت في اللاشعور التي ترجع الى التعاليم الدينية والخلقية التي تعمل على قمع ما تراه يتنافى مع الآداب العامة , ويطلق على هذا الجانب اسم (الذات الواقعيةEgo ) والتي تحاول أن توفق بين مبدأ اللذة أو النزاعات الدنيا , وبين مقتضيات الوسط الإجتماعي فتمثل في الفرد ما يطلق عليه (بالذات العليا Super Ego ) , وتتبلور فيها مجموعة الأوامر والنواهي , والمثل التي يلقاها الفرد من مصادر دينية اجتماعية , وهي التي تحول الميول العدوانية الى دوافع للترابط والوفاق الاجتماعي , بالرغم من وجود نوازع الكراهية الكامنة بين الذات الفردية , والذوات التي تحاول فرض ارادتها عليها , وبفضل هذه الذات العليا يحاول الفرد ان يمتثل الى النظم الاجتماعية , ويحترم أصحاب السلطة ويبجل كبار السن . ( )
ويعتبر فرويد (1856-1939) معاصراً لماكس وفيبر , لكنه بعيداً عن ان يكون متخصصاً في الأنثروبولوجيا وغير متخصص ايضاً في علم الإجتماع , إلا انه يستحق ان يذكره الجمهور بفضل مؤلفاته في مجال التحليل النفسي , وسنجد في (طوطمية وتابو 1912م ) و(مستقبل وهم1927 م) و (موسى والتوحيد 1939م) جوهر مفاهيم عن الدين كنظام يعكس الكبت والهوس العصبي للبشرية , وتشكل رغبة الحب ورغبة الجنس طاقات تدخل في تنمية المشاعر الدينية , فالسحر والدين هما في المقام الأول حالات نفسية , ويعتبر الدين والهوس عمليات مشابهة للصدمة النفسية والكمون , مع الشعور بالذنب يتبعها حالة تسام وعبادة للأب الذي ربما يقتله أبناءه ويأكلونه معبرين عن غضبهم بسبب القهر الجنسي الذي كان يفرضه عليهم , كما تعتبر أصل فكرة قتل الأب وتناول القربان والذبيحة الرافعة للذنب من محظ خيال فرويد , وتم الإعتراف تدريجياً بعدم قبول تفسير مذهب الطوطمية , وكذلك تفسير عقدة أوديب , ومن الناحية المنطقية يتعين ان تكون صورة الإله متنوعة وفقاً للمكانة التي يحتلها الأب في منظومة القرابة بدلاً من ان يكون إلهاً واحداً , ذلك ما بينه مالينوفسكي هادماً فكرة أوديب من خلال تحليل المجتمعات , حيث يؤخذ بعين الإعتبار النسب الأمومي وحده , وكذلك تحليل علاقات القرابة المختلفة لمجتمع فينّا . ( )
رابعاً / وجهة نظر كارل ماركس حول الدين :
على الرغم من الأثر الذي تركه ماركس في هذا المجال إلا انه لم يدرس الدين بحد ذاته بصورة تفصيلية , بل استقى أكثر أفكاره حول هذا الموضوع من كتابات عدد من الفلاسفة والمفكرين في القرن التاسع عشر , وكان من هؤلاء لودفيغ فويرباخ الذي وضع كتابه الشهير المسمى (جوهر المسيحية 1841م) , والدين في نظر فويرباخ عبارة عن أفكار وقيم أنتجها البشر خلال تطورهم الثقافي , ولكنهم أسبغوها على قوى سماوية أو إلهية , ونظراً لأن البشر لا يعرفون مصيرهم تمام المعرفة , فإنهم ينسبون الى أنشطة الآلهة ما سبق لهم أن أنتجوه في مجتمعاتهم من قيم ومعايير , من هنا , فإن قصة الوصايا العشر التي أنزلها الله على موسى هي مجرد نسخة أسطورية لأصول المبادئ الأخلاقية التي كانت في حياة اليهود القدماء ثم المسيحيين , ويضيف فويرباخ أنه طالما ظل البشر عاجزين عن فهم الرموز الدينية التي ابتدعوها , فإنهم سيظلون أسرى لقوى التأريخ التي لا يستطيعون التحكم فيها , ويستخدم فويرباخ مصطلح الإستلاب أو الإغتراب للدلالة على آلهة أو قوى إلهية متميزة من البشر , ذلك ان القيم والأفكار الإنسانية تُعزى في هذه الحالة الى كائنات غريبة ومستقلة , وقد ترك التغرب في الماضي آثاراً سلبية , غير ان فهم الناس للدين بإعتباره اغتراباً أو استلاباً من شأنه أن يفتح أبواب المستقبل , وحالما يتبين البشر ان القيم التي يرجعونها الى الدين انما هي من انتاجهم , فإن هذه القيم ستغدو ممكنة التحقيق على الأرض ولن يتم ارجاؤها الى الحياة الأخرى , ويمكن للبشر آنذاك أن يكتسبوا القوى التي ينسبها المسيحيون الى الله , فالمحبة والخير والقدرة على التحكم في حياتنا موجودة كما يرى فويرباخ في المؤسسات الإجتماعية , وقد تؤتي ثمارها حالما ندرك ونتفهم طبيعتها الحقيقية . ( )
ان الخطاب الماركسي حول الدين لا يتكون في الواقع فقط من تحليل سوسيولوجي لظاهرة الدين , انه يتكون ايضاً من نقد فلسفي وسياسي , خطاب هو وريث لفلسفة التنوير ولمنهج لودفيج فويرباخ (1804-1872) الذي قدم موجزاً أنثروبولوجياً للدين في كتابه (جوهر المسيحية) عام 1841 محللاً فيه (الإغتراب الديني) بوصفه إسقاطاُ وهمياً من قبل الإنسان لوجوده كإنسان وللوجود الإلهي , أما فيما يتعلق بالنقد السياسي فإنه يرى في الدين بشكل أساسي أداة تستخدم من قبل الطبقة المسيطرة من أجل إضفاء الشرعية على سلطتها ومن أجل منع أي تمرد من جانب المسيطر عليهم , ومن وجهة النظر السوسيولوجية نري ان الماركسية تعتبر الأديان كظواهر تنتمي الى البنية الفوقية لا تتمتع إلا بإستقلالية نسبية جداً بالنظر الى الأساس الفعلي للمجتمع قطاع الإنتاج المادي والعلاقات الإجتماعية التي تتشكل فيه , على الرغم من ان التحليل السوسيولوجي هو الذي يهمنا هنا , فإنه من الضروري مع ذلك تقييم النقد السياسي الذي عبر عنه (ماركس و انجلز) , ذلك ان النقد السياسي للدين يسيطر على منهجهما بشكل كبير في أغلب الحالات على التحليل السوسيولوجي للظواهر الدينية . ( )
لقد نقلت الماركسية عن فويرباخ مفهوم الإغتراب الديني الذي يقول بأن البشر هم الذين صنعوا فكرة الألوهية , فألزموا انفسهم بالخضوع لقوة خارجية مفارقة لذواتهم , وبسبب ذلك صار من الصعب عليهم تغيير النظام القيمي الأخلاقي الذي أقاموه بأنفسهم , وربط ماركس بين هذا المفهوم وفكرة الإغتراب الإقتصادي الناشئ عن الرأسمالية , فلم يرى في الدين أكثر من غطاء أيديولوجي يستر الإغتراب الإقتصادي سواء من قبل الطبقات المهيمنة التي توظفه بشكل تبريري , أو من قبل الطبقات المقهورة التي توظفه في الإحتجاج أو في التعويض . ( )
ويأخذ (ماركس) على الدين انه يفصل فصلاً قاطعاً بين حياة أرضية وحياة أبدية , ولهذا يدعوا الفقراء الى الإستسلام واليأس من الدنيا , يقول ماركس (الدين زفرة الخليقة المقهورة , وهو مزاج عالم بلا قلب , وهو الروح لأحوال بلا روح , أنه أفيون الشعوب , ان الفقراء ينتظرون الموت مستسلمين عاجزين , وينتظرون الجزاء في عالم آخر , ولهذا يقبلون , دون تردد ولا ثورة على أشكال الحكم الإستبدادية , وبقاء نظام الطبقات , ولا يسعون للإتحاد فيما بينهم من أجل تغيير العالم , وهكذا يغايرون أنفسهم بواسطة الدين , ويحال بينهم وبين الفعل , ولهذا ينبغي – على حدِ تعبير ماركس – على الانسان ان يتحرر من مغايرة الدين له , يقول ماركس : ان ازالة الدين , بوصفه السعادة الوهمية للشعوب , هي الشرط لتحقيق
رد: علم الإجتماع الديني المفاهيم الأساسية - النشأة والتطور
السعادة الحقيقية . ( )
الفصل الرابع / الدين والثقافة The Religion and Culture
المبحث الأول / مكونات الدين :
يعتمد قيام الأديان على أساسين مهمين الأول نظري ويتكون من الأفكار والمعتقدات الدينية , أما الثاني فعملي ويتكون من الطقوس المختلفة التي يقومون بها ويفعلونها في المناسبات الدينية ولهاذين الأساسين خصائص اجتماعية من أهمها :
أولاً - انها خارجية وقائمة في المجتمع قبل ظهور الأفراد فهم يخرجون الى الحياة ويجدونها سابقة لظهورهم ويأخذون بها .
ثانياً / أنها تلقائية ومن صنع المجتمع نفسه وليس من صنع الأفراد ويتولد جهودها من ضرورة معيشة الناس مع بعضهم , فمصدرها اذن الثقافة المجتمعية وليست نفسية أو حيوية أو جغرافية , فلدين بمكونيه النظري والعملي لا يمكن ان يعزى الى روعة مظاهر الطبيعة , كالشمس والقمر والنجوم والرعد التي بهرت الإنسان واضطرته الى عبادتها وتقديسها , كما ذهب بعض المفكرين , ومما يؤيد ذلك ان الرجل المتأخر يعتقد انه عن طريق السحر كظاهرة اجتماعية يمكن ان يتحكم في المظاهر الطبيعية ويسيطر على حركاتها .
ثالثاً - ان مكونات الدين النظرية والعملية للدين ملزمتين لما لهما من جبرية وضغط اجتماعي تحتم ان يتبعها كل فرد في المجتمع , وإلا وقع عليه الجزاء , فالجزاء احياناً يكون مادياً وهو في الأغلب جسدياً , واحياناً يكون معنوياً كالإزدراء الجمعي و الإشمئزاز , إلا ان للعقاب المادي السيطرة لأنه لا ينصب عند المتأخرين على المجرم , وانما ينصب على الجريمة , فالجرم اعتداء صريح على هيبة الجماعة والعقاب وسيلة لرد شرف الجماعة , ومن هنا تبدو الصرامة والشدة في الجزاء حتى انهم لا يعاقبون المجرم نفسه احياناً , وانما اي فرد من أفراد البطون والعشائر للتكفير عن الجريمة نفسها .
رابعاً - ان القواعد الدينية قد تكون آمرة أو ناهية فهي تخص الإعتقاد والإيمان ببعض الأفكار, وتنصح ايضاً بعدم الإيمان و الإعتقاد في أفكار ومعتقدات أخرى , وهذا ما يمثل الناحية النظرية للدين , وكذلك هناك الناحية العملية وهي الخاصة بإتيان بعض الأفعال والطقوس والشعائر أو عدم الإتيان بها أحياناً . ( )
وثمة جوانب اجتماعية مهمة للدين لا يمكننا اغفالها , حيث تكمن في النقاط التالية :
1- ان الدين من حيث يقوم على مبدأ الوحي الإلهي , يرجع الى مصدر مفارق للإنسان , أي ان له وجوداً ذاتياً سابقاً على حضوره , ومن ثم فهو فكرة كلية مطلقة ومتعالية غير قابلة للتغير .
2- ان الإنسان هو موضوع الدين ومجاله , ولذلك فإن الدين لا يظهر إلا من خلال التجلي في الواقع الإجتماعي , وهو ما يعني حضوره في البنية الإجتماعية ضروري .
3- ان الإنسان في الوقت نفسه هو الذات التي تتلقى الدين وتمارسه , اي الذات التي تتدين , ومن هنا فلا سبيل الى ادراك الدين والتعبير عنه إلا بوسائل الإتصال البشرية وفي مقدمتها اللغة , ويترتب على ذلك حضور الخصائص والمثيرات المتباينة للذوات الفردية والهياكل الإجتماعية الى منطوق البينة الدينية . ((
وعليه فالدين عنصر ومكون مهم من عناصر المجتمع وثقافته , بالرغم من انه يحمل صفة الإلوهية وسماوية المصدر , كما في الأديان السماوية , فهو يؤثر ويتأثر بالمجتمع بما يحمله من عناصره المادية والمعنوية , ومن خلال هذه العناصر والمكونات يصبح نظاماً مهماً في المجتمع , وجزءاً لا يتجزء من الثقافة لا يمكن الإستغناء عنه .
المبحث الثاني / تطور الفكر الديني :
عالج بارسونز وبيلا تطور الدين , ونظراً الى ان الدين في تطوره يزداد تبايناً وتفرداً عن بقية المجتمع , يذهب بارسونز الى ان ازدياد التيار الفكري العلماني المصاحب لتطور الدين لا يعني انحساراً أو اختفاء للدين , ولكن يعني ان الدين في تطوره يزداد خصوصية , ويؤكد بارسونز على ان الدين ما زال شيئاً هاماً بالنسبة للأفراد , وان التدين الفردي سوف يستمر في التأثير على السلوك العام , وقد وضع بيلا خمس مراحل تطورية للدين :
الأولى - مرحلة الدين البدائي :
وهي أبسط أشكال الدين بدائية , وتظهر عند القبائل البدائية لسكان استراليا الأصليين, فنسق الرموز الدينية عند هذه الجماعات يركز على عالم خرافي هو عالم الأرواح , وهذا العالم يمدهم بنموذج لفهم العالم الحقيقي , ومن خلال الطقوس الدينية يتوحد الأفراد مع الكائنات الروحية الموجودة في العالم الخرافي اي في عالم الأرواح , وفي مرحلة الدين البدائي لا يوجد انفصال بين الأدوار الدينية والبناء أو المنظمات , فالدين ليس جزءاً مختلفاً عن الثقافة , ولذلك فهو يخدم وحدة الثقافة ويعظم من الإستقرار في البناء الإجتماعي , فالدين لا يعمل على وجود التغير الإجتماعي . ( )
وتمثل هذه المرحلة الطور الأول , حيث كانت الإنسانية تدين بالفيتيشية , والتي تعني نزعة فكرية تحمل المرء على القول بأن الأشياء المحيطة بها لها حياة كحياته , فيخشاها ويكرمها , وكان هذا الفكر الديني في بادئ الأمر يمتد الى جميع نواحي الحياة وشتى مظاهرها .( )
الثانية - مرحلة الدين القديم :
وفي هذه المرحلة يزداد قوة وتأثير هذه الكائنات الروحية عن المرحلة السابقة , وينظر اليهم أكثر من كونهم نماذج , فهم مزودون بقوة وسلطة ولهم قدرة على التأثير في الحياة اليومية , ولذلك فهنالك صلوات تقام لتحقيق الإتصال مع هذه الكائنات الفوق انسانية , وفي هذه المرحلة هناك علاقة قوية بين الدين والسياسة , وتبدو هذه العلاقة في تقديس الملك الحاكم , كما ان الأسر ذات المكانة السياسية العالية عادة هي التي تحتل المكانات الدينية العالية والأدوار الدينية الرئيسية , فالدين في هذه المرحلة أساسي وضروري , ونسق الرموز الدينية ليس مستقلاً عن نسق الرموز العلمانية , لذلك فإن الرؤيا الدينية للعالم لم تقدم بديلاً لما هو سائد في الثقافة . ( )
الثالثة - مرحلة الدين التأريخي :
ان السمة المميزة لمرحلة الدين التأريخي ذلك الفصل بين العالم المقدس والعالم العلماني , هذه الثنائية عادة تقود الى رفض الواقع وقيمه مع استحسان العالم الديني , ان هذه للمرحلة تعني تطوراً في الدين لأن الدين أصبح شيئاً أكثر من كونه ولاء للقبيلة , ان الدين التأريخي يدعم وجود الإله الأوحد أو وحدانية الإله , اي ان هناك إلهاً واحداً لكل الناس ولكل القبائل , والأبعد من ذلك , ان مفهوم الفصل والإستقلال لعالم الموجودات يتضمن التمفصل بين النماذج البديلة , عن ماذا تكون حقيقة العالم ؟ وماذا يتوقع من الإنسان ؟ وفي هذه المرحلة ظهر أيضاً الكيان المستقل للمؤسسات الدينية وأنساق الرموز . ( )
ان كل ديانة في رقيها تحاول الإنتقال من تعدد الآلهة الى القول بإله واحد يدير شؤون الكون وهي في هذه المحاولة , تصل بين شتى الجماعات التي كانت تدين بآلهة مختلفة , وقد تخلق منها وحدة سياسية قوية , والديانة المصرية مثل لنا على ذلك , يقول مسبيرو " عرفت مصر التوحيد , في ابتداء عهدها , لأسباب سياسية وجغرافية أكثر منها دينية , فغدا سكان هيليوبوليس يعبدون الإله (رع) مع عبادتهم غيره من الآلهة , غير انه كان يُعتقد ان (رع) يفوقهم قوة وانه متفرد بسلطانه " , وكذلك الإسلام دعا القبائل العربية الى التوحيد بعد ان كانت تدين بديانات مختلفة , فكان من جراء هذه الوحدة الدينية وحدة سياسية قوية ضمت شمل العرب وجعلتهم دولة واحدة استطاعت ان تسيطر على قسم كبير من اجزاء المعمورة . ( )
الرابعة - مرحلة الدين المعاصر المبكر :
في هذه المرحلة تظهر ايضاً ثنائية رؤية العالم واستقلال المؤسسات الدينية , كما تعدلت النظرة السلبية للعالم الواقعي , بينما ظل الخلاص يُنظر اليه على انه مكافأة ينالها الفرد في العالم الآخر , فخلاص الفرد يتحقق من خلال علاقة الفرد الشخصية مع الإله , وقد حدد بيلا بداية مرحلة الدين المعاصر المبكر بالإصلاح البروتستانتي , فالإصلاح البروتستانتي يركز على الدور الوسيط للمنظمات الدينية , فالخلاص هو مسؤولية فردية في هذا العالم , ان الولاء للإله يُنظر اليه من خلال مفاهيم السلوك في الحياة اليومية أكثر من مجرد حضور الطقوس الدينية , هذا يعني ان المؤسسات العلمانية الخاصة بالقانون والتعليم والسياسية , أصبحت قطاعات يعبر فيها عن القيم والإتجاهات التي يمكن للفرد ان يستقي منها رؤية العالم , ففي هذه المرحلة أصبح الدين أكثر خصوصية , فهو ليس محتماً ولا مضبوطاً بواسطة الجوانب الرسمية العامة . ( )
الخامسة - مرحلة الدين المعاصر :
يرى بيلا ان الدين المعاصر هو ظاهرة جارية في ظهورها , وان طبيعة هذه المرحلة ووجودها محاط بالمخاطر , ويذكر بيلا ايضاً بأننا نحن الآن نمر بمرحلة تحول في الدين الذي يتضمن مزيداً من الخصوصية وقليلاً من الضبط التنظيمي , ويذهب بيلا الى ان هناك أشكالاً جديدة من الدين تظهر , وأن هذه الأشكال الجديدة تتميز بإلغاء الرؤية المزدوجة للعالم اي تلك التي تحوي عالمين عالم مقدس وعالم علماني , فالدين في هذه المرحلة أصبح أقل ازدواجية , ولذلك ينظر بيلا الى رؤية العالم على انها تدين علماني , فالتطور الديني بالنسبة لبيلا هو زيادة في تعقد نسق الرموز وتعقد انظمة المجتمع , ان المرحلة الأخيرة من عملية التطور تسمح للأفراد بأن يقوموا بإختيار رؤية العالم , فالأفراد أصبحوا أكثر استقلالاً ليفكروا في انفسهم ويخلقوا نسقاً خاصاً بهم . ( )
المبحث الثالث / تباين الأديان وتعددها :
ان ثمة تنوعاً كبيراً في الأديان والممارسات الطقوسية , وقد تتضمن هذه أنماطاً سلوكية أو شعورية مثل : الصلاة والقراءة والترتيل , أو الغناء , أو الحركة الجسمانية , او تناول أطعمة معينة , أو الإمتناع عنها في أوقات محددة , وربما تكتسب بعض هذه العناصر والشعائر طابع السلوك الفردي الشخصي الذي قد يقوم به المرء بمفرده , غير ان ثمة اجماعاً بين العلماء الإجتماعيين على ان السلوك الإحتفالي الجمعي هو من ابرز خصائص المعتقدات الدينية التي تميزه عن ممارسات أخرى مثل السحر , ويمثل الدين في المجتمعات التقليدية محوراً مركزياً في حياة الناس , و كثيراً ما تندمج الرموز الدينية والطقسية وتتغلغل في تضاعيف الحياة المادية والروحية والثقافية والفنية في المجتمعات التقليدية , والى حد اقل في المجتمعات الحديثة , وقد تتراوح الرموز والزعامات الممثلة للإنتماء الديني بين القيادات المعروفة على الصعيد العام في الحياة المعاصرة من جهة , ومفهوم الولي أو الشامان أو الكاهن القديم الذي كان شائعاً في المجتمعات البدائية والتقليدية بوصفه , بحسب المزاعم التي تبرر وجوده وممارساته , قادراً على التوسط بين الناس وقوى سحرية فوقية , وهناك نوعان متميزان من الإعتقاد الديني انتشرا في المجتمعات البدائية والبسيطة , إذ اكتشفت الطوطمية في أوساط قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية , إلا ان مصطلح الطوطم استخدم فيما بعد لوصف أنواع من الحيوانات والنباتات التي تُسبغ الجماعة عليها قوة فوقية استثنائية خارقة , وتتخذ كل من جماعات القرابة أو العشائر في المجتمع طوطماً خاصاً بها تحيطه بأشكال مختلفة من الممارسات والأنشطة الشعائرية , وقد تبدو فكرة الطوطم غريبة كل الغرابة في المجتمعات الصناعية والمعاصرة , إلا أننا نلمح بعض آثارها في سياقات ضيقة نسبياً في مجتمعاتنا الحديثة عندما يتخذ بعض الأفراد والجماعات , وربما المؤسسات , رموزاً معينة يستبشرون بها ويعتبرونها عنواناً للنجاح سواء على الصعيد الشخصي , أو الرياضي , أو التجاري .
أما النوع الآخر من الإعتقاد الديني , فهو الإتجاه الإحيائي , وهو الإعتقاد بوجود الأرواح والأشباح تعيش بين البشر , ومنها ما هو حميد طيب , ومنها الشرير الضار , ويعتقد في بعض المجتمعات ان مثل هذه الأرواح تسبب المرض أو الجنون أو تمس بعض الأفراد وتتملكهم , وتوجه سلوكهم , ولا يقتصر وجود مثل هذا الإتجاه الإحيائي على الثقافات الصغيرة أو المندثرة , فقد كان واسع الإنتشار في أوروبا في العصور الوسطى , وكان الأفراد الذين يعانون هذا المس يتعرضون للإضطهاد , ويعتبرونه من السحرة والمشعوذين , كما ان المصابين بهذه العلة قد يخضعون للعلاج أو النبذ أو الإضطهاد في بعض المجتمعات التقليدية والحديثة .
ويشير الباحث ايفانز بريتشارد الى ان الطوطمية والإحيائية تمثلان نظماً معقدة ومركبة من المعتقدات الدينية , بل ان بعضها , كما هي الحال لدى قبائل النوير في جنوب السودان , يشتمل على منظومة واسعة من الأفكار والمفاهيم التي تدور حول إله أعظم أو روح سماوية , واذا ما أخذنا المجتمعات البشرية الراهنة من الوجهة العددية وبصرف النظر عن طبيعتها ومستوى تقدمها الصناعي و الإقتصادي , لوجدنا أن قلة قليلة منها تعتنق الأديان الوحدانية , بينما تشيع في أوساط أكثرها شعائر دينية ترتبط بتعدد الآلهة . ( )
ان الديانات القديمة الوضعية التي سادت قبلاً ولا تزال تسود في المجتمعات المتأخرة تختلف عن الديانات الكبرى السماوية المنزلة , فالدين في الجماعات المتأخرة غيره في الجماعات الراقية , فهو ليس بدين سماوي ولم ينزل به كتاب معين كالتوراة والإنجيل والقرآن , فهو ليس بدين للتوحيد , لأن ديانات التوحيد المنزلة لها مستواها الحضاري الراقي ولم تأت إلا في آخر مراحل التطور الديني كما يقول بذلك ادورد تايلور , فالعقلية المتأخرة لم تبلغ حد التجريد والتعميم العقلي , ولا تتصور إلهاً إلا يحده مكاناً ولا زماناً , وقد اتجه دوركهايم في تفسير الدين الى انه لا يقوم اصلاً عند الأقوام المتأخرة في فكرة الإله وقيام كائن أعظم له من القدرة والحوار , وما يفرض ارادته العليا المقدسة على متبعيه والمؤمنين به , ذلك لأن العقلية المتأخرة لم تبلغ درجة من الرقي يمكنهم بها ادراك اله مجرد عام , ويصعب عندهم أو عند هذه الأقوام وجود ديانة توحيدية , كذلك فإن فكرة الإله الواحد ليست الأساس الرئيسي لقيام الأديان لأن هناك أديان تقوم أحياناً على تعدد الآلهة , كما هو الحال عند اليونانيين القدامى والمصريين , وأحياناً هناك أديان لا نجد فيها فكرة الإله اطلاقاً , كما في الديانات القومية الإلحادية الوضعية كالبوذية و الكونفشيوسية , وانما يقوم الدين على فكرة المجتمع اي انه وسيلة لتوحيد أفراد المجتمع وجمعهم , ومصدراً لمعيشة الناس معيشة مشتركة , واحتياجهم في مجرى حياتهم الى أصول وقواعد ضابطة يأخذون بها ويطبقونها بإخلاص وبإحترام , اي في اساليب العرف الخاصة بالمعبودات مهما كانت أشكالها , أرواحاً كانت أم طوطماً أم أجداداً وآباء أو أبطالاً .( )
أما العوامل التي أدت الى تنوع الأديان والعقائد فهي كما يأتي :
1- العامل الجغرافي :
تنبه الأقدمون لتأثير العامل الجغرافي في حياة المجتمع , فهذا هيرودوت الملقب بأب التأريخ يقول " ان مصر هبة من النيل " وهذا ابن خلدون يحدثنا عن تأثير المناخ في العامل الجغرافي في الديانة , ففي وصفه للأقاليم المختلفة جغرافياً , فيقول كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم التي تتميز بالإعتدال , فسكانها من البشر أعدل جسماً وألواناً وأخلاقاً و أدياناً , أما سكان الأقاليم البعيدة من الإعتدال فهم متوحشون تكاد امزجتهم وأخلاقهم أقرب الى الحيوانات , كذلك أحوالهم في الديانة أيضاً , فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة إلا من قرب منهم من جوانب الإعتدال , كذلك نري (جيمس فريزر) يقول :
" اننا على ثقة بأن الديانة قد تأثرت بالمحيط الطبيعي أكثر من أي نظام اجتماعي ." , وما علينا لإثبات ذلك إلا ان نلقي نظرة الى مختلف الأساطير الدينية لنرى ان أساطير الأمم التي تسكن السواحل مثلاً تخالف الأساطير التي تقيم بداخل البلاد , وأن الأساطير التي تعيش في الأقاليم الحارة تخالف الأساطير التي تعيش في الأصقاع الباردة , ويحدثنا صاحب كتب (جيفارو) عن قبيلة ليس في أساطيرها حكاية عن الطوفان , ولكن هناك حديث آخر عن قحط شديد أصاب البلاد على أثر انحباس الأمطار , ويقول كرابير : " اننا لا نستطيع ان نتفهم تماماً الأساطير الجرمانية ما لم نطلع على الأحوال الجغرافية من جبال وغابات وبحار وثلوج وزوابع ." , وعند موره ان الخرافات التي تدور حول المعارك بين (ست وأخيه أزريس) في الأساطير المصرية ليست إلا رمز العراك بين النيل والصحاري القاحلة , والتقاليد تدلنا على ان موت أزريس يكون وقت هبوط مياه النيل , حيث تهب رياح محرقة من الصحراء جارفة معها أوراق الشجر , وهناك أمم عبدت عناصر الطبيعة والسيارات حتى ان المؤرخ (دي لا بورت) لا يحجم عن الجزم بأن الأشوريين قد ألهوا جميع قوى الطبيعة وشتى قوى الخير وكل الأجرام السماوية , وقد تنبه (مونتسكيو) لهذا العامل فقال :" ان الديانة المؤسسة على المحيط الجغرافي لا تنتشر في بلاد تخالف في طبيعتها الجغرافية البلاد التي وجدت فيها هذه الديانة , ويخال ان المناخ هو الذي وضع الحد الفاصل بين الديانة المسيحية والديانة الإسلامية , وهذا ما ذهب اليه ايضاً الأستاذ محمد حسين هيكل بعد مونتسكيو , يتضح لنا من الأمثلة المذكورة آنفاً ان العامل الجغرافي أثراً بيناً في الحياة الدينية , غير انه اخذ يفقد من أهميته يوم استطاع الإنسان أن يملي إرادته على الطبيعة بعد ان كانت الغالبة القاهرة في فجر الإنسانية . ( )
2- العامل العمراني أو المورفولوجي :
ويراد به عدد السكان وحجم المجتمع وكثافته وطرق المواصلات بين البلاد , واذا درسنا الديانات عامة رأينا ان كل تغيير يطرأ على هيئة المجتمع يصحبه تغيير في نظام الديانة , ومن ذلك ان الإستقرار في الأرض أدى الى فصل السلطة عن الدين , وعندما حلّ نظام الأبوة مكان الأمومة تضخم عدد الأساطير , واذا ما تكاثر الناس وتمّ الإنتقال من نظام العشيرة الى نظام القبيلة تأثرت الديانة المغلقة , وانتقلت من الطوطمية المتأخرة الى الطوطمية المرتقية , ومن ذلك ايضاً , أن اتحاد القبائل وسيطرة شعب منها على القبائل التي دونها قوة مهدتا الطريق الى الدول الكبرى , تشد أزرها الديانات , ثم ان اتساع شأن الدولة , وامتداد حجمها وسلطانها , وازدياد المواصلات بين الأقطار , أدت الى ارتقاء ديني كان من نتائجه التمسك بجوهر الدين واستعداد الأفكار لقبول ديانة الإنسانية , كذلك فإن الديانة تؤثر بدورها على النظام الإجتماعي , فالإسلام مثلاً , بردعه المؤمنين عن الوأد خشية إملاق , فقد زاد عدد الأفراد , وهم وان ظلوا متمسكين بالنعرات القبلية القديمة , غير ان الإسلام ازال هذه العقبات حتى ذللها , بالحزازات القديمة حتى تغلب عليها , وجعل العرب وحدة متماسكة , ونقلها من العشيرة الى السلطان , ولولاه لما تم الإنتقال بهذه السرعة , وكذلك الأمر في البلاد الدائنة بالنصرانية والمتمسكة بأهداب الدين , فهي على الغالب , لا تطبق قوانين مالثوس في تقليل المواليد , وأخيراً فإن للديانة أثراً بالغاً في زيادة حجم المجتمع وعدد سكانه في البلدان المقدسة . ( )
3- العامل السياسي :
ان الدين إلهياً كان أم غير إلهي , لم يشذ عن قواعد الشؤون الإنسانية , ولم يخرج على مقتضيات أنواع الحياة البشرية وحاجاتها المتباينة أو المتقاربة , فعلى سبيل المثال تغير الإتجاه الديني لعوامل سياسية في صدر الإسلام حينما تضاربت مصلحة المجتمع الدولة والأمة , ومصلحة الدين كانت مصلحة المجتمع هي الفاصل في النزاع , حيث أخذت السور القرآنية المدنية تتطور لتوافق حاجة الجماعة فصارت جهاداً وتشريعاً , بينما كانت السور المكية فكراً متسامياً الى الله وروحاً متجردة من الأصنام و الدنيويات , كذلك صارت تعاليم لوتير المصلح وسيلة لتحرر ألمانيا من ربقة روما , والكنيسة (الأنغليكانية) الإنكليزية التي أنشئت وأزيلت ثم أعيدت لتفي بغرض المجتمع الإنكليزي , فظلت في طقوسها كأنها كاثوليكية أو أرثوذكسية , ولكنها استقلت عن هذين المذهبين , ان الدين واحد , ولكن الأمم متعددة , وفي احتكاك الأمم بالأمم تتمسك كل واحدة بكل عقيدة أو بأية عقيدة , سواء كانت دينية أو غير دينية , لتحافظ على استقلالها الروحي , فلا تخضع لأمة أخرى بواسطة السلطة الروحية الدينية , ولذلك ظلت اسكتلندا كاثوليكية لكي تحتفظ بشخصيتها القومية , فلا تذوب في انكلترا , ان في المجتمعات الإنسانية نزعة الى اكتساب العقائد العامة صبغات وألواناً وأذواقاً من خصوصيات شخصياتها , وكل مجتمع يحب أن يرى نفسيته وشؤونه الخصوصية في معتقداته ومذاهبه , اي ان يطبع المذهب العام والمشترك بطابع شخصي , فالمجتمع الروسي مثلاً , قد أدخل في الأرثوذكسية الشيء الكثير من شخصيته وخصوصياته الإجتماعية , فالترانيم والأجواق الكنسية وتقبيل الأقارب ثلاثاً والأعياد ومظاهرها القومية , هذه الأشياء الثانوية بالنسبة الى الإعتقاد بالله والخلود والمسيح , لها الشأن الأول في نفسية المجتمع , وهي هذه الأشياء التي لها قيمة قومية في حياة المجتمع , اشياء تقليدية صُبغ المجتمع الدين بها فأصبحت تقاليد دينية قومية . ( )
4- العامل الإقتصادي :
ان طريقة الإنتاج في الحياة المادية تعطي الهيئات الإجتماعية والسياسية والروحية طبائعها العامة , كما ان اسلوب المعاش يُملي على الناس منهاج حياتهم , كما ان الديانة والفلسفة لم تعرفا طريقهما الى الوجود إلا على يد العوامل الإقتصادية التي جعلت ظهورهما حيز الإمكان , وعند ماركس ان المسيحية ما كانت لتوجد لولا التطور الذي قلب صفحة العالم القديم , على أثر الفتوحات الرومانية , وان البروتستانتية ما كانت لتظهر لولا التطور الإقتصادي الذي مهد الطريق للرأسمالية , ويضرب نيتشه مثلاً على الغرار نفسه في تحليله المسيحية , فهي عنده ديانة الشعوب المرهقة الضعيفة التي تجد في النعيم الأبدي ملجأ تلتمس فيه سعادة طالما نشدتها على هذه الأرض , وهي ايضاً ديانة العبيد الذين لا يستطيعون سوى الطاعة و الخضوع الأعمى لأوامر سادتهم فهي القائلة " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر , ونجد في النظريات الباحثة عن الطوطمية محاولة لتفسير أثر العامل الإقتصادي , فجيمس فريزر يؤكد في احدى نظرياته ان الإنسانية في أجيالها الأولى كانت تؤلف شبه شركة غايتها الإنتاج و الإستهلاك , فكان على كل عشيرة ان توجد نوعاً واحداً من الأطعمة تقدمه لسائر العشائر .
وكما ان للعامل الإقتصادي اثراً على الدين , كذلك فإن للدين ايضاً اثراً بيّن في الإقتصاديات , فهناك ادلة على ان الزراعة مدينة بنشأتها للدين (غرانت آلن) , فما كان للإنسان الأولي ليبحث في الأرض لو لم تضطره الإعتقادات السائدة عن الحياة , وما وراء الحياة الى دفن موتاه , ولما كان من المسلم به يومئذ ان الميت يعيش ثانية في القبر , فقد وضع الأهلون في الأرض المقلوبة أطعمة وحبوباً هي بمثابة غذاء الميت , فلم تلبث هذه الحبوب الحقلية ان نمت بسرعة في هذه الأرض المحروثة حديثاً , وقد غدت صالحة لأن انحلال الجسم قد أعطاها السماد اللازم لإنعاشها , فتوهم الناس بأن روح الميت هي التي منحت الزرع هذه القوة , وتنبهوا شيئاً فشيئاً لأمور الزراعة , واعتقدوا ان الحصاد لا يكون جيداً إلا اذا كرروا ما صنعوه عند دفن موتاهم , وذلك بأن يحفروا الأرض ويدفنوا فيها ذبيحة بشرية تكون بمنزلة روح الزرع . ( )
المبحث الرابع / أشكال الأديان الإنسانية :
أولاً / الأديان السماوية :
تُطلق هذه التسمية على الأديان التي يؤمن معتنقوها أنها منزلة من الله , أي ان مصدرها هو الوحي الإلهي , وتُستخدم هذه التسمية في مقابل الأديان الوضعية التي كانت من انتاج البشر , ويحصر الباحثون الأديان السماوية حسب ترتيبها التأريخي اليهودية , والمسيحية , والإسلامية وهي الديانات التوحيدية الثلاث الباقية في المجتمعات البشرية المعاصرة , ورغم التفاوت في نسبة انتشارها في عالم اليوم إلا انها نشأت جميعها في ما يعرف الآن بمنطقة الشرق الأوسط , كما انها تميزت بكثير من أوجه التداخل والتقارب في بعض عناصرها ومنطلقاتها الأساسية , وسأعرض عليكم بشيء من الإيجاز بعض أهم المبادئ والأفكار والأساسية التي نادت بها كل ديانة من هذه الديانات . ( )
1- الديانة اليهودية :
ان تعريف اليهودية يقودنا بالضرورة الى عدة مصطلحات تربطها علاقة نسب وصلة قوّية , خاصة ونحن نتحدث عن ديانة يجتمع فيها الديني والتأريخي , ويرتبط بها إرث عرقي ولغوي , وهذه المصطلحات هي : عبري , اسرائيلي , يهودي .
فالعبري هو المصطلح الذي يرتبط بحدث تأريخي هو العبور أو الرحلة عند البعض , أو بشخص اسمه عابر , احد اجداد ابراهيم (عليه السلام) , وما يحمله من الإشارة الى صفة الغربة أو الإغتراب التي ارتبطت بهذا الشعب .
والإسرائيلي هو المصطلح الذي يرتبط بتغير أسم يعقوب (عليه السلام) الى اسرائيل , والذي يعني المصارع مع الرّب , أو المجاهد مع الرّب , وهو الإسم الذي اصبح العبريون ينتسبون اليه , وهي محاولة لفصل نسل اسحاق عن نسل اسماعيل المشتركين في ابوة ابراهيم , وكان قد بدأ استخدام هذا المصطلح منذ بداية القرن العاشر قبل الميلاد , وهو يعني بالوقت نفسه الإنتماء السياسي الى مملكة اسرائيل الشمالية .
واليهودي هو المصطلح الذي يعود من الناحية التأريخية الى الإسم (يهوذا) , وهو احد أبناء يعقوب (عليه السلام) , وقد ساد استخدام هذه التسمية للدلالة على كل اليهود سياسياً , بعد ان انتهت مملكة اسرائيل الشمالية , وسبي كثير من سكانها الى آشور , ثم استخدامات كلمتي يهودي و يهودا تعودان الى فترة السبي البابلي , التي انتهت فيه استخدام تسمية عبري , كما خف استخدام تسمية اسرائيلي بدلالاتها السياسية , وحلت تسمية يهودي محلّ تسمية اسرائيلي للدلالة على الإسرائيليين واليهود معاً منذ فترة السبي البابلي . ( )
وهي الديانة الإبراهيمية الأقدم , التي نُزلت على بني اسرائيل ويهودا القديمة , وتستند اليهودية في المقام الأول على التوراة , وهي النص الذي يعتقد بعض اليهود انه وصل الى شعب اسرائيل عن طريق النبي موسى (عليه السلام) عام 1400 قبل الميلاد , بالإضافة الى بقية الكتب العبرية مثل التلمود والنصوص المركزية لليهودية .
ومن اهم مصادر الديانة اليهودية مجموعتان من الكتب المقدسة الأولى التناخ أو العهد القديم , وهي تسمية مسيحية , والثانية التلمود , ثم تكونت عبر الزمن حواشي أخرى تتمثل في اجتهادات وقراءات الحاخامات . ( )
أما الشريعة اليهودية فقد تضمنت في اسفارها العهد القديم والتلمود تنظيماً كاملاً لشؤون اليهود في دينهم ودنياهم معاً , فلم تغادر ناحية من نواحي العبادات , أو شؤون المعاملات والسياسة والإقتصاد , أو الأسرة أو القضاء أو الأخلاق أو الحرب , وما الى ذلك إلا وضعت لها أحكاماً وقواعد , وبينت ما ينبغي أن تكون عليه , وما يجب فعله في حالة الخروج عليها , وحتى شؤون الأكل والشرب , والعلاقات الخاصة بين الرجل وزوجته , والحيض والنفاس والزراعة والحصاد , واستخدام الأنعام في الحرث , أما أهم مظاهر الإنحراف في هذه الشريعة , فيتجلى في قيامها على التفرقة العنصرية , وذلك انها جعلت اليهود الشعب المختار الذي اصطفاه الله وفضله على العالمين , وتنظر الى ما عداه من الشعوب نظرة وضيعة في سُلم الإنسانية , وتضع قوانينها ونظمها على هذا الأساس , وتضع نظمها وقوانينها على هذا الأساس . ( )
وقد تفرعت في اليهودية فرق كثيرة , تختلف في مبادئها وأسس حياتها ونظرتها الى الكون , ولقد أسهمت معطيات كثيرة في مولد هذه الفِرَق وتكاثرها , ويرجع بعضها الى أسباب عقائدية وفقهية , كما يرجع بعضها الآخر الى أسباب تأريخية وسياسية , هذا الى جانب الظروف التي مرّت بها الجماعات اليهودية في الشتات , والتي كانت لها الأثر البالغ في هذا التعدد الكمي والنوعي في العنصر اليهودي , ومن اهم المذاهب اليهودية :
أ- الفرّيسيّون .
ب- السامريون .
ت- الصدوقيون .
ث- الآسينيون . ( )
2- الديانة المسيحية :
وقد نشأت المسيحية في فلسطين , وبدأت بالإنتشار في ظل الإضطهاد الروماني لعدة قرون الى ان اعتمدها الإمبراطور قسطنطين ديناً رسمياً للإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي , وتسارع انتشارها بعد ذلك في آسيا الصغرى واليونان ثم أوروبا بمجملها . ( )
ومن بين جميع الأديان الكبرى , تُعتبر المسيحية اليوم أوسع الأديان انتشاراً وأكثرها اتباعاً , وربما تكون الأرقام التي تُعطى لأتباع هذه الديانة مبالغاً فيها احياناً , اي ان السجلات تُقدم رقماً يقارب أن يكون هناك شخص مسيحي من أصل كل ثلاث أشخاص على وجه المعمورة , بما يعطي رقماً يصل الى حوالي مليار ونصف مليار نسمة لأتباع المسيحية . ( )
وتتميز المسيحية من بقية الأديان السماوية الأخرى بأنها قائمة في كل نواحيها على شخصية محورية هي شخصية المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام) , فالعقائد المسيحية والشعائر المسيحية متمحورة حول شخصه , فالقول بالعلاقة المميزة التي تربطه بالله (الأب) , والقول با (الصلب , الفداء , القيامة ) كلها مرتبطة بهذه الشخصية , وما حدث لها في تصوّر المسيحيين , كما ان العماد والأفخارستيا كلها مرتبطة بأعمال قام بها المسيح في حياته , فالبحث في المسيحية يتوقف على تتبع تفاصيل حياة المسيح (عليه السلام) , وما جرى فيها من الأحداث , خاصة حادث الميلاد , وحادث النهاية (الصلب عند المسيحيين) , أما مصادر الديانة المسيحية فهي تعتمد على الكتاب المقدس , وهو مكون من قسمين كبيرين هما : الأول العهد القديم والذي سبق التعريف به اثناء استعراض الديانة اليهودية , والثاني العهد الجديد وهو ينقسم الى قسمين :
القسم الأول الأناجيل : والإنجيل كلمة معرّبة من الكلمة اليونانية (ايفانجليون) , والتي تعني البشارة او الخبر السار , ويطلق المسيحيون على الأناجيل عموماً اسم الأسفار التأريخية , أي تلك التي تحكي وتروي حياة المسيح عليه السلام ودعوته , والأناجيل في تأريخ المسيحية كثيرة , ولكن الكنيسة لم تعترف إلا بأربعة أناجيل هي :
1- إنجيل متّى 2- إنجيل مرقُس 3- إنجيل لوقا 4- إنجيل يوحنا .
والقسم الثاني الرسائل : ويسمي المسيحيون الرسائل الأسفار التعليمية , لأنها تفسر وتعلم المسيحية أكثر من الأناجيل , وقد دونت باللغة اليونانية , ويبلغ عدد الرسائل إحدى وعشرون رسالة , تنسب أربع عشرة منها الى (بولس الرسول) , وهي المصدر الثاني بعد الأناجيل الناصة على التعاليم المسيحية , فهي التي تشرحها , وتفسرها , وعددها اثنتان وعشرون رسالة .
أما العقيدة المسيحية فتقوم على أربع عقائد هي :
1- عقيدة الإلوهية (التثليث) 2- عقيدة الصلب 3- عقيدة الفداء 4- عقيدة القيامة .
وبالنسبة للشعائر المسيحية , فيطلق عليها أيضاً الأسرار جمع سّر , وهو نوع من الحياة التي تمنحها الكنيسة للإنسان بواسطة صلاة خاصة , وتعطيه فيها النعمة , حتى يستطيع القيام بواجبات هذا السّر , والأسرار المسيحية على اختلاف اعتمادها من طرف الطوائف والفرق المسيحية سبعة هي :
1- المعمودية .
2- سّر التثبيت .
3- سًر القربان .
4- سّر التوبة .
5- سّر المسحة الأخيرة .
6- سّر الكهنوت .
7- سّر الزيجة .
وبخصوص الفرق والمذاهب المسيحية , فقد ظهرت في تأريخ الديانة المسيحية فِرق كثيرة لا حصر لها , كان من اسباب ظهورها الخلافات العقلية بين المسيحيين التي بدأت من الإختلاف في طبيعة المسيح عليه السلام , حيث ظهر اتجاهين مختلفين أحدهما يقول ببشرية المسيح , والآخر فيقول بإلوهية المسيح , وهناك الفرق المسيحية القديمة وهي بصورة عامة ثلاث فرق :
الأول – النسطورية .
الثاني – اليعقوبية .
الثالث – المارونية .
أما الفرق المسيحية الحديثة فهي ثلاث فرق أيضاً :
الأول – الكاثوليكية .
الثاني – الأرثوذوكسية .
الثالث – البروتستانتية . ( )
لقد كانت الدعامة الأساسية التي قامت عليها الديانة المسيحية عند ظهورها هي الدعوة الى المحبة سواء كانت محبة الله او محبة الأنسان , وكانت تهدف من هذا المبدأ الى ان تجعل من المجتمع البشري أسرة واحدة تستظل برحمة رب واحد , لذلك حاول المسيحيون ان يحققوا مثلاً أعلى واحداً شاملاً , وأخذت المسيحية بالنظرية الرواقية , ولم يكن لها مطامع اقليمية , وانما كانت تستند الى افكار روحية خالصة تنحصر في طاعة الله ومحبته وخدمة الإنسان , واهتمت بالجانب الروحي في حياة الإنسان , ولم تعلق أهمية تذكر على اقامة الشعائر في الظاهر أو الإشتراك في العبادات الخارجية , بل نفذت بقوة الى النواحي الداخلية الأساسية في الحياة والسلوك , ولذلك لم تسمح المسيحية لأتباعها بالإشتراك في اية عبادة أخرى سواها حتى الطقوس الرسمية التي كانت تفرضها المدينة , ومنعتهم ايضاً من الإشتراك في تقديس الأباطرة رغم ما نالهم من ألوان العذاب , وقد ادت هذه الإجراءات بالمجتمعات الوثنية وبالحكومات الرومانية الى اضطهادهم وتشتت شملهم ومقاومة دعوتهم . ( )
3- الديانة الإسلامية :
يحتل الإسلام مكانة بارزة بين الديانات السماوية , فإذا أخذنا كلمة الإسلام في معناها القرآني نجد إنها لا تدع مجالاً للسؤال عن العلاقة بين الإسلام وبين الديانات الأخرى , فالإسلام في القرآن ليس اسماً لدين خاص بل أسم للدين المشترك الذي نادى به الأنبياء جميعهم وإعتنقه الأنبياء كلهم . ( )
يقوم الإسلام الذي نشأ في الجزيرة العربية , في جوهره على أركان خمسة وهي : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله و إقامة الصلاة , وإيتاء الزكاة , وصوم رمضان , وحج البيت من استطاع اليه سبيلا , ومع اقرار الإسلام بالرسل والأنبياء للديانتين اليهودية والمسيحية , إلا انه يقر أيضاً أن محمداً هو خاتم الأنبياء والمرسلين , ويتركز أكثر المسلمين اليوم في شمال أفريقيا , والشرق الأوسط , وشيه القارة الهندية , وقي العقد الأخير من القرن العشرين تجاوز عدد المسلمين بليون نسمة , اي ما يزيد على 18% من سكان العالم . ( )
ان علاقة الإسلام بالديانات السماوية في صورتها الأولى هي علاقة تصديق وتأييد تام , وان علاقته بها في صورتها المرئية علاقة تصديق لما بقى من اجزائها الأصلية , وتصحيح لما طرأ عليها من البدع والإضافات الغريبة عنها , وهذا الطابع الذي تتميز به العقيدة الإسلامية هو طابع الإنصاف والتبصير الذي يتقاضى كل مسلم بأن لا يقبل جزافاً ولا ينكر جزافاً , وان يصدق دائماً عن بصيرة وبينة في قبوله ورفضه ليس خاصاً بموقفها من الديانات السماوية , بل هو شأنها إزاء كل رأي وعقيدة , وكل شريعة وملة . ( )
الفصل الرابع / الدين والثقافة The Religion and Culture
المبحث الأول / مكونات الدين :
يعتمد قيام الأديان على أساسين مهمين الأول نظري ويتكون من الأفكار والمعتقدات الدينية , أما الثاني فعملي ويتكون من الطقوس المختلفة التي يقومون بها ويفعلونها في المناسبات الدينية ولهاذين الأساسين خصائص اجتماعية من أهمها :
أولاً - انها خارجية وقائمة في المجتمع قبل ظهور الأفراد فهم يخرجون الى الحياة ويجدونها سابقة لظهورهم ويأخذون بها .
ثانياً / أنها تلقائية ومن صنع المجتمع نفسه وليس من صنع الأفراد ويتولد جهودها من ضرورة معيشة الناس مع بعضهم , فمصدرها اذن الثقافة المجتمعية وليست نفسية أو حيوية أو جغرافية , فلدين بمكونيه النظري والعملي لا يمكن ان يعزى الى روعة مظاهر الطبيعة , كالشمس والقمر والنجوم والرعد التي بهرت الإنسان واضطرته الى عبادتها وتقديسها , كما ذهب بعض المفكرين , ومما يؤيد ذلك ان الرجل المتأخر يعتقد انه عن طريق السحر كظاهرة اجتماعية يمكن ان يتحكم في المظاهر الطبيعية ويسيطر على حركاتها .
ثالثاً - ان مكونات الدين النظرية والعملية للدين ملزمتين لما لهما من جبرية وضغط اجتماعي تحتم ان يتبعها كل فرد في المجتمع , وإلا وقع عليه الجزاء , فالجزاء احياناً يكون مادياً وهو في الأغلب جسدياً , واحياناً يكون معنوياً كالإزدراء الجمعي و الإشمئزاز , إلا ان للعقاب المادي السيطرة لأنه لا ينصب عند المتأخرين على المجرم , وانما ينصب على الجريمة , فالجرم اعتداء صريح على هيبة الجماعة والعقاب وسيلة لرد شرف الجماعة , ومن هنا تبدو الصرامة والشدة في الجزاء حتى انهم لا يعاقبون المجرم نفسه احياناً , وانما اي فرد من أفراد البطون والعشائر للتكفير عن الجريمة نفسها .
رابعاً - ان القواعد الدينية قد تكون آمرة أو ناهية فهي تخص الإعتقاد والإيمان ببعض الأفكار, وتنصح ايضاً بعدم الإيمان و الإعتقاد في أفكار ومعتقدات أخرى , وهذا ما يمثل الناحية النظرية للدين , وكذلك هناك الناحية العملية وهي الخاصة بإتيان بعض الأفعال والطقوس والشعائر أو عدم الإتيان بها أحياناً . ( )
وثمة جوانب اجتماعية مهمة للدين لا يمكننا اغفالها , حيث تكمن في النقاط التالية :
1- ان الدين من حيث يقوم على مبدأ الوحي الإلهي , يرجع الى مصدر مفارق للإنسان , أي ان له وجوداً ذاتياً سابقاً على حضوره , ومن ثم فهو فكرة كلية مطلقة ومتعالية غير قابلة للتغير .
2- ان الإنسان هو موضوع الدين ومجاله , ولذلك فإن الدين لا يظهر إلا من خلال التجلي في الواقع الإجتماعي , وهو ما يعني حضوره في البنية الإجتماعية ضروري .
3- ان الإنسان في الوقت نفسه هو الذات التي تتلقى الدين وتمارسه , اي الذات التي تتدين , ومن هنا فلا سبيل الى ادراك الدين والتعبير عنه إلا بوسائل الإتصال البشرية وفي مقدمتها اللغة , ويترتب على ذلك حضور الخصائص والمثيرات المتباينة للذوات الفردية والهياكل الإجتماعية الى منطوق البينة الدينية . ((
وعليه فالدين عنصر ومكون مهم من عناصر المجتمع وثقافته , بالرغم من انه يحمل صفة الإلوهية وسماوية المصدر , كما في الأديان السماوية , فهو يؤثر ويتأثر بالمجتمع بما يحمله من عناصره المادية والمعنوية , ومن خلال هذه العناصر والمكونات يصبح نظاماً مهماً في المجتمع , وجزءاً لا يتجزء من الثقافة لا يمكن الإستغناء عنه .
المبحث الثاني / تطور الفكر الديني :
عالج بارسونز وبيلا تطور الدين , ونظراً الى ان الدين في تطوره يزداد تبايناً وتفرداً عن بقية المجتمع , يذهب بارسونز الى ان ازدياد التيار الفكري العلماني المصاحب لتطور الدين لا يعني انحساراً أو اختفاء للدين , ولكن يعني ان الدين في تطوره يزداد خصوصية , ويؤكد بارسونز على ان الدين ما زال شيئاً هاماً بالنسبة للأفراد , وان التدين الفردي سوف يستمر في التأثير على السلوك العام , وقد وضع بيلا خمس مراحل تطورية للدين :
الأولى - مرحلة الدين البدائي :
وهي أبسط أشكال الدين بدائية , وتظهر عند القبائل البدائية لسكان استراليا الأصليين, فنسق الرموز الدينية عند هذه الجماعات يركز على عالم خرافي هو عالم الأرواح , وهذا العالم يمدهم بنموذج لفهم العالم الحقيقي , ومن خلال الطقوس الدينية يتوحد الأفراد مع الكائنات الروحية الموجودة في العالم الخرافي اي في عالم الأرواح , وفي مرحلة الدين البدائي لا يوجد انفصال بين الأدوار الدينية والبناء أو المنظمات , فالدين ليس جزءاً مختلفاً عن الثقافة , ولذلك فهو يخدم وحدة الثقافة ويعظم من الإستقرار في البناء الإجتماعي , فالدين لا يعمل على وجود التغير الإجتماعي . ( )
وتمثل هذه المرحلة الطور الأول , حيث كانت الإنسانية تدين بالفيتيشية , والتي تعني نزعة فكرية تحمل المرء على القول بأن الأشياء المحيطة بها لها حياة كحياته , فيخشاها ويكرمها , وكان هذا الفكر الديني في بادئ الأمر يمتد الى جميع نواحي الحياة وشتى مظاهرها .( )
الثانية - مرحلة الدين القديم :
وفي هذه المرحلة يزداد قوة وتأثير هذه الكائنات الروحية عن المرحلة السابقة , وينظر اليهم أكثر من كونهم نماذج , فهم مزودون بقوة وسلطة ولهم قدرة على التأثير في الحياة اليومية , ولذلك فهنالك صلوات تقام لتحقيق الإتصال مع هذه الكائنات الفوق انسانية , وفي هذه المرحلة هناك علاقة قوية بين الدين والسياسة , وتبدو هذه العلاقة في تقديس الملك الحاكم , كما ان الأسر ذات المكانة السياسية العالية عادة هي التي تحتل المكانات الدينية العالية والأدوار الدينية الرئيسية , فالدين في هذه المرحلة أساسي وضروري , ونسق الرموز الدينية ليس مستقلاً عن نسق الرموز العلمانية , لذلك فإن الرؤيا الدينية للعالم لم تقدم بديلاً لما هو سائد في الثقافة . ( )
الثالثة - مرحلة الدين التأريخي :
ان السمة المميزة لمرحلة الدين التأريخي ذلك الفصل بين العالم المقدس والعالم العلماني , هذه الثنائية عادة تقود الى رفض الواقع وقيمه مع استحسان العالم الديني , ان هذه للمرحلة تعني تطوراً في الدين لأن الدين أصبح شيئاً أكثر من كونه ولاء للقبيلة , ان الدين التأريخي يدعم وجود الإله الأوحد أو وحدانية الإله , اي ان هناك إلهاً واحداً لكل الناس ولكل القبائل , والأبعد من ذلك , ان مفهوم الفصل والإستقلال لعالم الموجودات يتضمن التمفصل بين النماذج البديلة , عن ماذا تكون حقيقة العالم ؟ وماذا يتوقع من الإنسان ؟ وفي هذه المرحلة ظهر أيضاً الكيان المستقل للمؤسسات الدينية وأنساق الرموز . ( )
ان كل ديانة في رقيها تحاول الإنتقال من تعدد الآلهة الى القول بإله واحد يدير شؤون الكون وهي في هذه المحاولة , تصل بين شتى الجماعات التي كانت تدين بآلهة مختلفة , وقد تخلق منها وحدة سياسية قوية , والديانة المصرية مثل لنا على ذلك , يقول مسبيرو " عرفت مصر التوحيد , في ابتداء عهدها , لأسباب سياسية وجغرافية أكثر منها دينية , فغدا سكان هيليوبوليس يعبدون الإله (رع) مع عبادتهم غيره من الآلهة , غير انه كان يُعتقد ان (رع) يفوقهم قوة وانه متفرد بسلطانه " , وكذلك الإسلام دعا القبائل العربية الى التوحيد بعد ان كانت تدين بديانات مختلفة , فكان من جراء هذه الوحدة الدينية وحدة سياسية قوية ضمت شمل العرب وجعلتهم دولة واحدة استطاعت ان تسيطر على قسم كبير من اجزاء المعمورة . ( )
الرابعة - مرحلة الدين المعاصر المبكر :
في هذه المرحلة تظهر ايضاً ثنائية رؤية العالم واستقلال المؤسسات الدينية , كما تعدلت النظرة السلبية للعالم الواقعي , بينما ظل الخلاص يُنظر اليه على انه مكافأة ينالها الفرد في العالم الآخر , فخلاص الفرد يتحقق من خلال علاقة الفرد الشخصية مع الإله , وقد حدد بيلا بداية مرحلة الدين المعاصر المبكر بالإصلاح البروتستانتي , فالإصلاح البروتستانتي يركز على الدور الوسيط للمنظمات الدينية , فالخلاص هو مسؤولية فردية في هذا العالم , ان الولاء للإله يُنظر اليه من خلال مفاهيم السلوك في الحياة اليومية أكثر من مجرد حضور الطقوس الدينية , هذا يعني ان المؤسسات العلمانية الخاصة بالقانون والتعليم والسياسية , أصبحت قطاعات يعبر فيها عن القيم والإتجاهات التي يمكن للفرد ان يستقي منها رؤية العالم , ففي هذه المرحلة أصبح الدين أكثر خصوصية , فهو ليس محتماً ولا مضبوطاً بواسطة الجوانب الرسمية العامة . ( )
الخامسة - مرحلة الدين المعاصر :
يرى بيلا ان الدين المعاصر هو ظاهرة جارية في ظهورها , وان طبيعة هذه المرحلة ووجودها محاط بالمخاطر , ويذكر بيلا ايضاً بأننا نحن الآن نمر بمرحلة تحول في الدين الذي يتضمن مزيداً من الخصوصية وقليلاً من الضبط التنظيمي , ويذهب بيلا الى ان هناك أشكالاً جديدة من الدين تظهر , وأن هذه الأشكال الجديدة تتميز بإلغاء الرؤية المزدوجة للعالم اي تلك التي تحوي عالمين عالم مقدس وعالم علماني , فالدين في هذه المرحلة أصبح أقل ازدواجية , ولذلك ينظر بيلا الى رؤية العالم على انها تدين علماني , فالتطور الديني بالنسبة لبيلا هو زيادة في تعقد نسق الرموز وتعقد انظمة المجتمع , ان المرحلة الأخيرة من عملية التطور تسمح للأفراد بأن يقوموا بإختيار رؤية العالم , فالأفراد أصبحوا أكثر استقلالاً ليفكروا في انفسهم ويخلقوا نسقاً خاصاً بهم . ( )
المبحث الثالث / تباين الأديان وتعددها :
ان ثمة تنوعاً كبيراً في الأديان والممارسات الطقوسية , وقد تتضمن هذه أنماطاً سلوكية أو شعورية مثل : الصلاة والقراءة والترتيل , أو الغناء , أو الحركة الجسمانية , او تناول أطعمة معينة , أو الإمتناع عنها في أوقات محددة , وربما تكتسب بعض هذه العناصر والشعائر طابع السلوك الفردي الشخصي الذي قد يقوم به المرء بمفرده , غير ان ثمة اجماعاً بين العلماء الإجتماعيين على ان السلوك الإحتفالي الجمعي هو من ابرز خصائص المعتقدات الدينية التي تميزه عن ممارسات أخرى مثل السحر , ويمثل الدين في المجتمعات التقليدية محوراً مركزياً في حياة الناس , و كثيراً ما تندمج الرموز الدينية والطقسية وتتغلغل في تضاعيف الحياة المادية والروحية والثقافية والفنية في المجتمعات التقليدية , والى حد اقل في المجتمعات الحديثة , وقد تتراوح الرموز والزعامات الممثلة للإنتماء الديني بين القيادات المعروفة على الصعيد العام في الحياة المعاصرة من جهة , ومفهوم الولي أو الشامان أو الكاهن القديم الذي كان شائعاً في المجتمعات البدائية والتقليدية بوصفه , بحسب المزاعم التي تبرر وجوده وممارساته , قادراً على التوسط بين الناس وقوى سحرية فوقية , وهناك نوعان متميزان من الإعتقاد الديني انتشرا في المجتمعات البدائية والبسيطة , إذ اكتشفت الطوطمية في أوساط قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية , إلا ان مصطلح الطوطم استخدم فيما بعد لوصف أنواع من الحيوانات والنباتات التي تُسبغ الجماعة عليها قوة فوقية استثنائية خارقة , وتتخذ كل من جماعات القرابة أو العشائر في المجتمع طوطماً خاصاً بها تحيطه بأشكال مختلفة من الممارسات والأنشطة الشعائرية , وقد تبدو فكرة الطوطم غريبة كل الغرابة في المجتمعات الصناعية والمعاصرة , إلا أننا نلمح بعض آثارها في سياقات ضيقة نسبياً في مجتمعاتنا الحديثة عندما يتخذ بعض الأفراد والجماعات , وربما المؤسسات , رموزاً معينة يستبشرون بها ويعتبرونها عنواناً للنجاح سواء على الصعيد الشخصي , أو الرياضي , أو التجاري .
أما النوع الآخر من الإعتقاد الديني , فهو الإتجاه الإحيائي , وهو الإعتقاد بوجود الأرواح والأشباح تعيش بين البشر , ومنها ما هو حميد طيب , ومنها الشرير الضار , ويعتقد في بعض المجتمعات ان مثل هذه الأرواح تسبب المرض أو الجنون أو تمس بعض الأفراد وتتملكهم , وتوجه سلوكهم , ولا يقتصر وجود مثل هذا الإتجاه الإحيائي على الثقافات الصغيرة أو المندثرة , فقد كان واسع الإنتشار في أوروبا في العصور الوسطى , وكان الأفراد الذين يعانون هذا المس يتعرضون للإضطهاد , ويعتبرونه من السحرة والمشعوذين , كما ان المصابين بهذه العلة قد يخضعون للعلاج أو النبذ أو الإضطهاد في بعض المجتمعات التقليدية والحديثة .
ويشير الباحث ايفانز بريتشارد الى ان الطوطمية والإحيائية تمثلان نظماً معقدة ومركبة من المعتقدات الدينية , بل ان بعضها , كما هي الحال لدى قبائل النوير في جنوب السودان , يشتمل على منظومة واسعة من الأفكار والمفاهيم التي تدور حول إله أعظم أو روح سماوية , واذا ما أخذنا المجتمعات البشرية الراهنة من الوجهة العددية وبصرف النظر عن طبيعتها ومستوى تقدمها الصناعي و الإقتصادي , لوجدنا أن قلة قليلة منها تعتنق الأديان الوحدانية , بينما تشيع في أوساط أكثرها شعائر دينية ترتبط بتعدد الآلهة . ( )
ان الديانات القديمة الوضعية التي سادت قبلاً ولا تزال تسود في المجتمعات المتأخرة تختلف عن الديانات الكبرى السماوية المنزلة , فالدين في الجماعات المتأخرة غيره في الجماعات الراقية , فهو ليس بدين سماوي ولم ينزل به كتاب معين كالتوراة والإنجيل والقرآن , فهو ليس بدين للتوحيد , لأن ديانات التوحيد المنزلة لها مستواها الحضاري الراقي ولم تأت إلا في آخر مراحل التطور الديني كما يقول بذلك ادورد تايلور , فالعقلية المتأخرة لم تبلغ حد التجريد والتعميم العقلي , ولا تتصور إلهاً إلا يحده مكاناً ولا زماناً , وقد اتجه دوركهايم في تفسير الدين الى انه لا يقوم اصلاً عند الأقوام المتأخرة في فكرة الإله وقيام كائن أعظم له من القدرة والحوار , وما يفرض ارادته العليا المقدسة على متبعيه والمؤمنين به , ذلك لأن العقلية المتأخرة لم تبلغ درجة من الرقي يمكنهم بها ادراك اله مجرد عام , ويصعب عندهم أو عند هذه الأقوام وجود ديانة توحيدية , كذلك فإن فكرة الإله الواحد ليست الأساس الرئيسي لقيام الأديان لأن هناك أديان تقوم أحياناً على تعدد الآلهة , كما هو الحال عند اليونانيين القدامى والمصريين , وأحياناً هناك أديان لا نجد فيها فكرة الإله اطلاقاً , كما في الديانات القومية الإلحادية الوضعية كالبوذية و الكونفشيوسية , وانما يقوم الدين على فكرة المجتمع اي انه وسيلة لتوحيد أفراد المجتمع وجمعهم , ومصدراً لمعيشة الناس معيشة مشتركة , واحتياجهم في مجرى حياتهم الى أصول وقواعد ضابطة يأخذون بها ويطبقونها بإخلاص وبإحترام , اي في اساليب العرف الخاصة بالمعبودات مهما كانت أشكالها , أرواحاً كانت أم طوطماً أم أجداداً وآباء أو أبطالاً .( )
أما العوامل التي أدت الى تنوع الأديان والعقائد فهي كما يأتي :
1- العامل الجغرافي :
تنبه الأقدمون لتأثير العامل الجغرافي في حياة المجتمع , فهذا هيرودوت الملقب بأب التأريخ يقول " ان مصر هبة من النيل " وهذا ابن خلدون يحدثنا عن تأثير المناخ في العامل الجغرافي في الديانة , ففي وصفه للأقاليم المختلفة جغرافياً , فيقول كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم التي تتميز بالإعتدال , فسكانها من البشر أعدل جسماً وألواناً وأخلاقاً و أدياناً , أما سكان الأقاليم البعيدة من الإعتدال فهم متوحشون تكاد امزجتهم وأخلاقهم أقرب الى الحيوانات , كذلك أحوالهم في الديانة أيضاً , فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة إلا من قرب منهم من جوانب الإعتدال , كذلك نري (جيمس فريزر) يقول :
" اننا على ثقة بأن الديانة قد تأثرت بالمحيط الطبيعي أكثر من أي نظام اجتماعي ." , وما علينا لإثبات ذلك إلا ان نلقي نظرة الى مختلف الأساطير الدينية لنرى ان أساطير الأمم التي تسكن السواحل مثلاً تخالف الأساطير التي تقيم بداخل البلاد , وأن الأساطير التي تعيش في الأقاليم الحارة تخالف الأساطير التي تعيش في الأصقاع الباردة , ويحدثنا صاحب كتب (جيفارو) عن قبيلة ليس في أساطيرها حكاية عن الطوفان , ولكن هناك حديث آخر عن قحط شديد أصاب البلاد على أثر انحباس الأمطار , ويقول كرابير : " اننا لا نستطيع ان نتفهم تماماً الأساطير الجرمانية ما لم نطلع على الأحوال الجغرافية من جبال وغابات وبحار وثلوج وزوابع ." , وعند موره ان الخرافات التي تدور حول المعارك بين (ست وأخيه أزريس) في الأساطير المصرية ليست إلا رمز العراك بين النيل والصحاري القاحلة , والتقاليد تدلنا على ان موت أزريس يكون وقت هبوط مياه النيل , حيث تهب رياح محرقة من الصحراء جارفة معها أوراق الشجر , وهناك أمم عبدت عناصر الطبيعة والسيارات حتى ان المؤرخ (دي لا بورت) لا يحجم عن الجزم بأن الأشوريين قد ألهوا جميع قوى الطبيعة وشتى قوى الخير وكل الأجرام السماوية , وقد تنبه (مونتسكيو) لهذا العامل فقال :" ان الديانة المؤسسة على المحيط الجغرافي لا تنتشر في بلاد تخالف في طبيعتها الجغرافية البلاد التي وجدت فيها هذه الديانة , ويخال ان المناخ هو الذي وضع الحد الفاصل بين الديانة المسيحية والديانة الإسلامية , وهذا ما ذهب اليه ايضاً الأستاذ محمد حسين هيكل بعد مونتسكيو , يتضح لنا من الأمثلة المذكورة آنفاً ان العامل الجغرافي أثراً بيناً في الحياة الدينية , غير انه اخذ يفقد من أهميته يوم استطاع الإنسان أن يملي إرادته على الطبيعة بعد ان كانت الغالبة القاهرة في فجر الإنسانية . ( )
2- العامل العمراني أو المورفولوجي :
ويراد به عدد السكان وحجم المجتمع وكثافته وطرق المواصلات بين البلاد , واذا درسنا الديانات عامة رأينا ان كل تغيير يطرأ على هيئة المجتمع يصحبه تغيير في نظام الديانة , ومن ذلك ان الإستقرار في الأرض أدى الى فصل السلطة عن الدين , وعندما حلّ نظام الأبوة مكان الأمومة تضخم عدد الأساطير , واذا ما تكاثر الناس وتمّ الإنتقال من نظام العشيرة الى نظام القبيلة تأثرت الديانة المغلقة , وانتقلت من الطوطمية المتأخرة الى الطوطمية المرتقية , ومن ذلك ايضاً , أن اتحاد القبائل وسيطرة شعب منها على القبائل التي دونها قوة مهدتا الطريق الى الدول الكبرى , تشد أزرها الديانات , ثم ان اتساع شأن الدولة , وامتداد حجمها وسلطانها , وازدياد المواصلات بين الأقطار , أدت الى ارتقاء ديني كان من نتائجه التمسك بجوهر الدين واستعداد الأفكار لقبول ديانة الإنسانية , كذلك فإن الديانة تؤثر بدورها على النظام الإجتماعي , فالإسلام مثلاً , بردعه المؤمنين عن الوأد خشية إملاق , فقد زاد عدد الأفراد , وهم وان ظلوا متمسكين بالنعرات القبلية القديمة , غير ان الإسلام ازال هذه العقبات حتى ذللها , بالحزازات القديمة حتى تغلب عليها , وجعل العرب وحدة متماسكة , ونقلها من العشيرة الى السلطان , ولولاه لما تم الإنتقال بهذه السرعة , وكذلك الأمر في البلاد الدائنة بالنصرانية والمتمسكة بأهداب الدين , فهي على الغالب , لا تطبق قوانين مالثوس في تقليل المواليد , وأخيراً فإن للديانة أثراً بالغاً في زيادة حجم المجتمع وعدد سكانه في البلدان المقدسة . ( )
3- العامل السياسي :
ان الدين إلهياً كان أم غير إلهي , لم يشذ عن قواعد الشؤون الإنسانية , ولم يخرج على مقتضيات أنواع الحياة البشرية وحاجاتها المتباينة أو المتقاربة , فعلى سبيل المثال تغير الإتجاه الديني لعوامل سياسية في صدر الإسلام حينما تضاربت مصلحة المجتمع الدولة والأمة , ومصلحة الدين كانت مصلحة المجتمع هي الفاصل في النزاع , حيث أخذت السور القرآنية المدنية تتطور لتوافق حاجة الجماعة فصارت جهاداً وتشريعاً , بينما كانت السور المكية فكراً متسامياً الى الله وروحاً متجردة من الأصنام و الدنيويات , كذلك صارت تعاليم لوتير المصلح وسيلة لتحرر ألمانيا من ربقة روما , والكنيسة (الأنغليكانية) الإنكليزية التي أنشئت وأزيلت ثم أعيدت لتفي بغرض المجتمع الإنكليزي , فظلت في طقوسها كأنها كاثوليكية أو أرثوذكسية , ولكنها استقلت عن هذين المذهبين , ان الدين واحد , ولكن الأمم متعددة , وفي احتكاك الأمم بالأمم تتمسك كل واحدة بكل عقيدة أو بأية عقيدة , سواء كانت دينية أو غير دينية , لتحافظ على استقلالها الروحي , فلا تخضع لأمة أخرى بواسطة السلطة الروحية الدينية , ولذلك ظلت اسكتلندا كاثوليكية لكي تحتفظ بشخصيتها القومية , فلا تذوب في انكلترا , ان في المجتمعات الإنسانية نزعة الى اكتساب العقائد العامة صبغات وألواناً وأذواقاً من خصوصيات شخصياتها , وكل مجتمع يحب أن يرى نفسيته وشؤونه الخصوصية في معتقداته ومذاهبه , اي ان يطبع المذهب العام والمشترك بطابع شخصي , فالمجتمع الروسي مثلاً , قد أدخل في الأرثوذكسية الشيء الكثير من شخصيته وخصوصياته الإجتماعية , فالترانيم والأجواق الكنسية وتقبيل الأقارب ثلاثاً والأعياد ومظاهرها القومية , هذه الأشياء الثانوية بالنسبة الى الإعتقاد بالله والخلود والمسيح , لها الشأن الأول في نفسية المجتمع , وهي هذه الأشياء التي لها قيمة قومية في حياة المجتمع , اشياء تقليدية صُبغ المجتمع الدين بها فأصبحت تقاليد دينية قومية . ( )
4- العامل الإقتصادي :
ان طريقة الإنتاج في الحياة المادية تعطي الهيئات الإجتماعية والسياسية والروحية طبائعها العامة , كما ان اسلوب المعاش يُملي على الناس منهاج حياتهم , كما ان الديانة والفلسفة لم تعرفا طريقهما الى الوجود إلا على يد العوامل الإقتصادية التي جعلت ظهورهما حيز الإمكان , وعند ماركس ان المسيحية ما كانت لتوجد لولا التطور الذي قلب صفحة العالم القديم , على أثر الفتوحات الرومانية , وان البروتستانتية ما كانت لتظهر لولا التطور الإقتصادي الذي مهد الطريق للرأسمالية , ويضرب نيتشه مثلاً على الغرار نفسه في تحليله المسيحية , فهي عنده ديانة الشعوب المرهقة الضعيفة التي تجد في النعيم الأبدي ملجأ تلتمس فيه سعادة طالما نشدتها على هذه الأرض , وهي ايضاً ديانة العبيد الذين لا يستطيعون سوى الطاعة و الخضوع الأعمى لأوامر سادتهم فهي القائلة " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر , ونجد في النظريات الباحثة عن الطوطمية محاولة لتفسير أثر العامل الإقتصادي , فجيمس فريزر يؤكد في احدى نظرياته ان الإنسانية في أجيالها الأولى كانت تؤلف شبه شركة غايتها الإنتاج و الإستهلاك , فكان على كل عشيرة ان توجد نوعاً واحداً من الأطعمة تقدمه لسائر العشائر .
وكما ان للعامل الإقتصادي اثراً على الدين , كذلك فإن للدين ايضاً اثراً بيّن في الإقتصاديات , فهناك ادلة على ان الزراعة مدينة بنشأتها للدين (غرانت آلن) , فما كان للإنسان الأولي ليبحث في الأرض لو لم تضطره الإعتقادات السائدة عن الحياة , وما وراء الحياة الى دفن موتاه , ولما كان من المسلم به يومئذ ان الميت يعيش ثانية في القبر , فقد وضع الأهلون في الأرض المقلوبة أطعمة وحبوباً هي بمثابة غذاء الميت , فلم تلبث هذه الحبوب الحقلية ان نمت بسرعة في هذه الأرض المحروثة حديثاً , وقد غدت صالحة لأن انحلال الجسم قد أعطاها السماد اللازم لإنعاشها , فتوهم الناس بأن روح الميت هي التي منحت الزرع هذه القوة , وتنبهوا شيئاً فشيئاً لأمور الزراعة , واعتقدوا ان الحصاد لا يكون جيداً إلا اذا كرروا ما صنعوه عند دفن موتاهم , وذلك بأن يحفروا الأرض ويدفنوا فيها ذبيحة بشرية تكون بمنزلة روح الزرع . ( )
المبحث الرابع / أشكال الأديان الإنسانية :
أولاً / الأديان السماوية :
تُطلق هذه التسمية على الأديان التي يؤمن معتنقوها أنها منزلة من الله , أي ان مصدرها هو الوحي الإلهي , وتُستخدم هذه التسمية في مقابل الأديان الوضعية التي كانت من انتاج البشر , ويحصر الباحثون الأديان السماوية حسب ترتيبها التأريخي اليهودية , والمسيحية , والإسلامية وهي الديانات التوحيدية الثلاث الباقية في المجتمعات البشرية المعاصرة , ورغم التفاوت في نسبة انتشارها في عالم اليوم إلا انها نشأت جميعها في ما يعرف الآن بمنطقة الشرق الأوسط , كما انها تميزت بكثير من أوجه التداخل والتقارب في بعض عناصرها ومنطلقاتها الأساسية , وسأعرض عليكم بشيء من الإيجاز بعض أهم المبادئ والأفكار والأساسية التي نادت بها كل ديانة من هذه الديانات . ( )
1- الديانة اليهودية :
ان تعريف اليهودية يقودنا بالضرورة الى عدة مصطلحات تربطها علاقة نسب وصلة قوّية , خاصة ونحن نتحدث عن ديانة يجتمع فيها الديني والتأريخي , ويرتبط بها إرث عرقي ولغوي , وهذه المصطلحات هي : عبري , اسرائيلي , يهودي .
فالعبري هو المصطلح الذي يرتبط بحدث تأريخي هو العبور أو الرحلة عند البعض , أو بشخص اسمه عابر , احد اجداد ابراهيم (عليه السلام) , وما يحمله من الإشارة الى صفة الغربة أو الإغتراب التي ارتبطت بهذا الشعب .
والإسرائيلي هو المصطلح الذي يرتبط بتغير أسم يعقوب (عليه السلام) الى اسرائيل , والذي يعني المصارع مع الرّب , أو المجاهد مع الرّب , وهو الإسم الذي اصبح العبريون ينتسبون اليه , وهي محاولة لفصل نسل اسحاق عن نسل اسماعيل المشتركين في ابوة ابراهيم , وكان قد بدأ استخدام هذا المصطلح منذ بداية القرن العاشر قبل الميلاد , وهو يعني بالوقت نفسه الإنتماء السياسي الى مملكة اسرائيل الشمالية .
واليهودي هو المصطلح الذي يعود من الناحية التأريخية الى الإسم (يهوذا) , وهو احد أبناء يعقوب (عليه السلام) , وقد ساد استخدام هذه التسمية للدلالة على كل اليهود سياسياً , بعد ان انتهت مملكة اسرائيل الشمالية , وسبي كثير من سكانها الى آشور , ثم استخدامات كلمتي يهودي و يهودا تعودان الى فترة السبي البابلي , التي انتهت فيه استخدام تسمية عبري , كما خف استخدام تسمية اسرائيلي بدلالاتها السياسية , وحلت تسمية يهودي محلّ تسمية اسرائيلي للدلالة على الإسرائيليين واليهود معاً منذ فترة السبي البابلي . ( )
وهي الديانة الإبراهيمية الأقدم , التي نُزلت على بني اسرائيل ويهودا القديمة , وتستند اليهودية في المقام الأول على التوراة , وهي النص الذي يعتقد بعض اليهود انه وصل الى شعب اسرائيل عن طريق النبي موسى (عليه السلام) عام 1400 قبل الميلاد , بالإضافة الى بقية الكتب العبرية مثل التلمود والنصوص المركزية لليهودية .
ومن اهم مصادر الديانة اليهودية مجموعتان من الكتب المقدسة الأولى التناخ أو العهد القديم , وهي تسمية مسيحية , والثانية التلمود , ثم تكونت عبر الزمن حواشي أخرى تتمثل في اجتهادات وقراءات الحاخامات . ( )
أما الشريعة اليهودية فقد تضمنت في اسفارها العهد القديم والتلمود تنظيماً كاملاً لشؤون اليهود في دينهم ودنياهم معاً , فلم تغادر ناحية من نواحي العبادات , أو شؤون المعاملات والسياسة والإقتصاد , أو الأسرة أو القضاء أو الأخلاق أو الحرب , وما الى ذلك إلا وضعت لها أحكاماً وقواعد , وبينت ما ينبغي أن تكون عليه , وما يجب فعله في حالة الخروج عليها , وحتى شؤون الأكل والشرب , والعلاقات الخاصة بين الرجل وزوجته , والحيض والنفاس والزراعة والحصاد , واستخدام الأنعام في الحرث , أما أهم مظاهر الإنحراف في هذه الشريعة , فيتجلى في قيامها على التفرقة العنصرية , وذلك انها جعلت اليهود الشعب المختار الذي اصطفاه الله وفضله على العالمين , وتنظر الى ما عداه من الشعوب نظرة وضيعة في سُلم الإنسانية , وتضع قوانينها ونظمها على هذا الأساس , وتضع نظمها وقوانينها على هذا الأساس . ( )
وقد تفرعت في اليهودية فرق كثيرة , تختلف في مبادئها وأسس حياتها ونظرتها الى الكون , ولقد أسهمت معطيات كثيرة في مولد هذه الفِرَق وتكاثرها , ويرجع بعضها الى أسباب عقائدية وفقهية , كما يرجع بعضها الآخر الى أسباب تأريخية وسياسية , هذا الى جانب الظروف التي مرّت بها الجماعات اليهودية في الشتات , والتي كانت لها الأثر البالغ في هذا التعدد الكمي والنوعي في العنصر اليهودي , ومن اهم المذاهب اليهودية :
أ- الفرّيسيّون .
ب- السامريون .
ت- الصدوقيون .
ث- الآسينيون . ( )
2- الديانة المسيحية :
وقد نشأت المسيحية في فلسطين , وبدأت بالإنتشار في ظل الإضطهاد الروماني لعدة قرون الى ان اعتمدها الإمبراطور قسطنطين ديناً رسمياً للإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي , وتسارع انتشارها بعد ذلك في آسيا الصغرى واليونان ثم أوروبا بمجملها . ( )
ومن بين جميع الأديان الكبرى , تُعتبر المسيحية اليوم أوسع الأديان انتشاراً وأكثرها اتباعاً , وربما تكون الأرقام التي تُعطى لأتباع هذه الديانة مبالغاً فيها احياناً , اي ان السجلات تُقدم رقماً يقارب أن يكون هناك شخص مسيحي من أصل كل ثلاث أشخاص على وجه المعمورة , بما يعطي رقماً يصل الى حوالي مليار ونصف مليار نسمة لأتباع المسيحية . ( )
وتتميز المسيحية من بقية الأديان السماوية الأخرى بأنها قائمة في كل نواحيها على شخصية محورية هي شخصية المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام) , فالعقائد المسيحية والشعائر المسيحية متمحورة حول شخصه , فالقول بالعلاقة المميزة التي تربطه بالله (الأب) , والقول با (الصلب , الفداء , القيامة ) كلها مرتبطة بهذه الشخصية , وما حدث لها في تصوّر المسيحيين , كما ان العماد والأفخارستيا كلها مرتبطة بأعمال قام بها المسيح في حياته , فالبحث في المسيحية يتوقف على تتبع تفاصيل حياة المسيح (عليه السلام) , وما جرى فيها من الأحداث , خاصة حادث الميلاد , وحادث النهاية (الصلب عند المسيحيين) , أما مصادر الديانة المسيحية فهي تعتمد على الكتاب المقدس , وهو مكون من قسمين كبيرين هما : الأول العهد القديم والذي سبق التعريف به اثناء استعراض الديانة اليهودية , والثاني العهد الجديد وهو ينقسم الى قسمين :
القسم الأول الأناجيل : والإنجيل كلمة معرّبة من الكلمة اليونانية (ايفانجليون) , والتي تعني البشارة او الخبر السار , ويطلق المسيحيون على الأناجيل عموماً اسم الأسفار التأريخية , أي تلك التي تحكي وتروي حياة المسيح عليه السلام ودعوته , والأناجيل في تأريخ المسيحية كثيرة , ولكن الكنيسة لم تعترف إلا بأربعة أناجيل هي :
1- إنجيل متّى 2- إنجيل مرقُس 3- إنجيل لوقا 4- إنجيل يوحنا .
والقسم الثاني الرسائل : ويسمي المسيحيون الرسائل الأسفار التعليمية , لأنها تفسر وتعلم المسيحية أكثر من الأناجيل , وقد دونت باللغة اليونانية , ويبلغ عدد الرسائل إحدى وعشرون رسالة , تنسب أربع عشرة منها الى (بولس الرسول) , وهي المصدر الثاني بعد الأناجيل الناصة على التعاليم المسيحية , فهي التي تشرحها , وتفسرها , وعددها اثنتان وعشرون رسالة .
أما العقيدة المسيحية فتقوم على أربع عقائد هي :
1- عقيدة الإلوهية (التثليث) 2- عقيدة الصلب 3- عقيدة الفداء 4- عقيدة القيامة .
وبالنسبة للشعائر المسيحية , فيطلق عليها أيضاً الأسرار جمع سّر , وهو نوع من الحياة التي تمنحها الكنيسة للإنسان بواسطة صلاة خاصة , وتعطيه فيها النعمة , حتى يستطيع القيام بواجبات هذا السّر , والأسرار المسيحية على اختلاف اعتمادها من طرف الطوائف والفرق المسيحية سبعة هي :
1- المعمودية .
2- سّر التثبيت .
3- سًر القربان .
4- سّر التوبة .
5- سّر المسحة الأخيرة .
6- سّر الكهنوت .
7- سّر الزيجة .
وبخصوص الفرق والمذاهب المسيحية , فقد ظهرت في تأريخ الديانة المسيحية فِرق كثيرة لا حصر لها , كان من اسباب ظهورها الخلافات العقلية بين المسيحيين التي بدأت من الإختلاف في طبيعة المسيح عليه السلام , حيث ظهر اتجاهين مختلفين أحدهما يقول ببشرية المسيح , والآخر فيقول بإلوهية المسيح , وهناك الفرق المسيحية القديمة وهي بصورة عامة ثلاث فرق :
الأول – النسطورية .
الثاني – اليعقوبية .
الثالث – المارونية .
أما الفرق المسيحية الحديثة فهي ثلاث فرق أيضاً :
الأول – الكاثوليكية .
الثاني – الأرثوذوكسية .
الثالث – البروتستانتية . ( )
لقد كانت الدعامة الأساسية التي قامت عليها الديانة المسيحية عند ظهورها هي الدعوة الى المحبة سواء كانت محبة الله او محبة الأنسان , وكانت تهدف من هذا المبدأ الى ان تجعل من المجتمع البشري أسرة واحدة تستظل برحمة رب واحد , لذلك حاول المسيحيون ان يحققوا مثلاً أعلى واحداً شاملاً , وأخذت المسيحية بالنظرية الرواقية , ولم يكن لها مطامع اقليمية , وانما كانت تستند الى افكار روحية خالصة تنحصر في طاعة الله ومحبته وخدمة الإنسان , واهتمت بالجانب الروحي في حياة الإنسان , ولم تعلق أهمية تذكر على اقامة الشعائر في الظاهر أو الإشتراك في العبادات الخارجية , بل نفذت بقوة الى النواحي الداخلية الأساسية في الحياة والسلوك , ولذلك لم تسمح المسيحية لأتباعها بالإشتراك في اية عبادة أخرى سواها حتى الطقوس الرسمية التي كانت تفرضها المدينة , ومنعتهم ايضاً من الإشتراك في تقديس الأباطرة رغم ما نالهم من ألوان العذاب , وقد ادت هذه الإجراءات بالمجتمعات الوثنية وبالحكومات الرومانية الى اضطهادهم وتشتت شملهم ومقاومة دعوتهم . ( )
3- الديانة الإسلامية :
يحتل الإسلام مكانة بارزة بين الديانات السماوية , فإذا أخذنا كلمة الإسلام في معناها القرآني نجد إنها لا تدع مجالاً للسؤال عن العلاقة بين الإسلام وبين الديانات الأخرى , فالإسلام في القرآن ليس اسماً لدين خاص بل أسم للدين المشترك الذي نادى به الأنبياء جميعهم وإعتنقه الأنبياء كلهم . ( )
يقوم الإسلام الذي نشأ في الجزيرة العربية , في جوهره على أركان خمسة وهي : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله و إقامة الصلاة , وإيتاء الزكاة , وصوم رمضان , وحج البيت من استطاع اليه سبيلا , ومع اقرار الإسلام بالرسل والأنبياء للديانتين اليهودية والمسيحية , إلا انه يقر أيضاً أن محمداً هو خاتم الأنبياء والمرسلين , ويتركز أكثر المسلمين اليوم في شمال أفريقيا , والشرق الأوسط , وشيه القارة الهندية , وقي العقد الأخير من القرن العشرين تجاوز عدد المسلمين بليون نسمة , اي ما يزيد على 18% من سكان العالم . ( )
ان علاقة الإسلام بالديانات السماوية في صورتها الأولى هي علاقة تصديق وتأييد تام , وان علاقته بها في صورتها المرئية علاقة تصديق لما بقى من اجزائها الأصلية , وتصحيح لما طرأ عليها من البدع والإضافات الغريبة عنها , وهذا الطابع الذي تتميز به العقيدة الإسلامية هو طابع الإنصاف والتبصير الذي يتقاضى كل مسلم بأن لا يقبل جزافاً ولا ينكر جزافاً , وان يصدق دائماً عن بصيرة وبينة في قبوله ورفضه ليس خاصاً بموقفها من الديانات السماوية , بل هو شأنها إزاء كل رأي وعقيدة , وكل شريعة وملة . ( )
رد: علم الإجتماع الديني المفاهيم الأساسية - النشأة والتطور
كما ان مصدر التشريع في الإسلام هو كتاب الله (القرآن) وسنة رسوله الكريم التي هي أفعال وأقوال الرسول والأحكام التي سنها الله لعباده على لسان رسوله ليعملوا بها عن ايمان سواء أكانت متعلقة بالأفعال أم بالعقائد أم بالأخلاق , ويقصد من وضع الشريعة اخراج المكلف عن داعية هواه واحساسه بضرورة الخضوع لهذه الأوامر أو الضوابط و الإلتزام بها لحفظ كيان المجتمع وذلك بالمحافظة على الضرورات الخمس , الدين , النفس , والعقل , والنسل , والمال , ولذلك فإن الإسلام هو خاتم الشرائع وأعمها وأشملها لأحكام الدين والدنيا , وقد تناول كل ما يتصل بالعقيدة والأخلاق ومعاملة النفس أو ما يمكن تسميته بالعبادات والمعاملات , وما تشمل عليه من نواه ومحرمات ومباح وحلال .
وتنقسم الأحكام الى :
أولاً / الأحكام الإعتقادية : وهي الأحكام المتعلقة بذات الله وصفاته ورسله والبعث والثواب والعقاب الى غير ذلك من الأحكام التي يجب على المكلف اعتقادها والإيمان بها .
ثانياً / الأحكام الخُلقية : وهي الأحكام المتعلقة ببيان الفضائل الواجب التحلي بها والتي تصور الإنسانية الكاملة , فلقد روضت الشريعة الإسلامية النفوس , على حب الخير ورغبتها في التواضع , وأرشدت الى آداب التزاور والمجالسة , كما نفرت الناس من التكاسل , وتناولت ما يدعو اليه الخُلق القويم والعمل المجدي والتعامل مع افراد المجتمع , فالقواعد العامة للأخلاق ليست من صنعنا بل اننا قد تلقيناها عن المشرع الأسمى , ونستطيع ان نستنبطها من كتابه العزيز وسنة رسوله الكريم .
ثالثاً / الأحكام العملية : وتتعلق بما يصدر عن الشخص المكلف من أقوال وافعال وتصرفات , فالشريعة بعد ان هذبت نفوس الناس وهيأتهم لتقبل الأحكام العملية بينت لهم من هو المكلف الذي يخاطب بأحكام الشريعة ويُلزم بها , وما هي العوارض التي تؤثر على الشخص فتجعله غير مكلف , وبينت فهم الصحيح والباطل والحلال والحرام في تصرفاتهم واتصالاتهم إفراداً وجماعات ودول في السلم والحرب , كما بينت للناس أحكام العبادات التي يتقربون بها الى الله من طهارة وصلاة وصوم وغير ذلك . ( )
ومن أهم المبادئ التي جاء بها التشريع الإسلامي هي :
1- مبدا التوحيد الذي يجمع الناس نحو إله واحد .
2- مبدأ التخاطب مع العقل .
3- مبدأ احاطة العقيدة بالأخلاق الفاضلة المُهذبة للنفس .
4- مبدأ جعل التكاليف الشرعية لإصلاح الروح وتطيرها .
5- مبدأ التآخي بين الدين والدنيا في التشريع .
6- مبدأ التسامح .
7- مبدأ الحرية .
8- مبدأ التكافل الإجتماعي .
هذه المبادئ تنبئ عن متانة البناء الإجتماعي وقوة أركانه وصلاحيته للرجوع اليه والاحتكام له في كل زمان ومكان بين جميع الناس . ( )
ان المفاهيم اللاهوتية الأساسية للإسلام تتطابق بشكل عملي مع المفاهيم اللاهوتية لليهودية والمسيحية الديانتين المتقدمتين على الإسلام ,وهذه المفاهيم المشتركة هي :
1- الله 2- عالم الخليقة 3- النفس الإنسانية 4- يوم الحساب . ( )
ثانياً / الأديان الوضعية :
1- الديانة الهندوسية أو البراهمية :
الهندوسية هي ديانة الغالبية العظمى من سكان الهند اليوم , وقد قامت على انقاض الديانة الهندية وتشربت أفكارها , وورثت منها الملامح الهندية القديمة والأساطير الروحانية المختلفة التي نمت في شيه الجزيرة الهندية قبل دخول الآريين , ويطلق البعض على هذه الديانة اسم البرهمية ابتدأ من القرن الثامن قبل الميلاد نسبة الى براهما , وهو القوة العظيمة السحرية الكامنة التي تطلب كثيراً من العبادات كقراءة الأدعية وانشاد الأناشيد وتقديم القرابين , ومن براهما اشتقت كلمة البراهمة لتكون علماً على رجال الدين الذين كان يعتقد انهم يتصلون في طبائعهم بالعنصر الإلهي , وهم لهذا كانوا كهنة الأمة , ولا تجوز الذبائح إلا في حضرتهم وعلى أيديهم . ( )
والدين الهندوسي دين معقد , ولا يُستطاع تعريفه بكلمات , ولا بصفحات , حتى الهندوس أنفسهم لا يستطيعون ذلك , وتقوم الهندوسية بين البشر وبين الله , وليس فيها مجال للأنبياء , ولا للرُسل , ولقد مرت الهندوسية في أطوار ثلاثة , كانت في طورها الأول هندية خالصة , وانتهى هذا الطور في القرن الثالث قبل الميلاد , ثم دخلت في طورها الثاني , وهو طور التأثر بالعقائد الأخرى , كان ذلك بعد دخول الإسكندر الى الهند , واختلاط الهنود بجنوده الذين كانوا خليطاً من اليونانيين والمصريين والآراميين والكلدانيين والفرس وغيرهم , وأما الطور الثالث , فقد بدأ بالفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي . ( )
أما مصادر الديانة الهندوسية فهي ثلاث مصادر رئيسية هي :
الأول - الفيدا : وهي الأسفار المقدسة للديانة الهندوسية , ومعناها المعرفة والعلم , وهي مجموعة أسفار قديمة يعتقد الهندوس أن جامعها هو حكيم من حكمائهم عُرف بإسم (فيدا فياسا) , ولم يعرف المؤرخون عصر كتابتها على وجه التحقيق والضبط , وأقصى ما تأكد لديهم أن الفيدا كانت موجودة قبل خمسة عشر قرناً , للفيدا قيمة تأريخية كبرى , فهي تشمل على الأدب الديني , وتحكي حياة الهندوس الدينية والسياسية والثقافية .
الثاني - قوانين (مانو) : تشمل قوانين (مانو) أو (مانافا دارما ساسترا) - أي كتاب قوانين مانو – على تفصيل الدين الهندوسي من حيث العبادات والمعاملات والنظم الإجتماعية ذات العلاقة بالسياسة والإقتصاد والأسرة والرق والقوانين المدنية , والأخلاق (مانو أو مانفا) , ولا يُعرف تأريخ تدوينه على وجه اليقين , وتذهب أرجح الآراء الى أنه كُتب في القرن الثالث عشر قبل الميلاد , ويُعد كتاب قوانين مانو أهم مرجع للباحث في الدين البرهمي لأنه استوعب جميع نواحي هذه الديانة , فهو يعتمد في ذلك على اسفار الفيدا نفسها ويشمل حوالي (2684) مادة او فقرة , مبوبة في انثي عشر باباً أو فصلاً .
الثالث - اليوبانيشاد : لنصوص الفيدا شروح وحواشي , وهذه الشروح والحواشي صارت بعد زمن جزءاً مكملاً للنصوص الأصلية , وجُمعت هذه الشروح في شكل مجموعات أو رسائل فلسفية أطلق عليها (اليوبانيشادات) , وتعني كلمة اليوبانيشاد الجلوس بقرب , أو الجلوس مقابل , ونفهم من هذه التسمية أنها كانت على درجة عالية من السرية , والذي بين الأيدي من اليوبانيشادات 250 يوبانيشادة . ( )
والعقائد عند الهندوسية هي كالآتي :
1- التعدد في البرهمية : اشتملت الديانة الهندوسية على انواع شتى من الآلهة , مكان منها آلهة تمثل قوى الطبيعة (كالمطر , السحاب , والنار , والريح , والبحار ) ويجمعونها في ديانة شمسية تلتقي بأديان أخرى , كما اشتملت على عبادة الأسلاف .
2- التثليث في البرهمية : انتهى الهندوس الى جعل هذه الآلهة المتعددة الى ثلاثة هي : - الإله (براهما) في صورة الخالق – الإله (فشنو) في صورة الحافظ الرحيم – الإله سيفا في صورة الهادم .
3- التوحيد في البرهمية .
4- عقيدة الكارما العمل والجزاء .
5- عقيدة التناسخ .
6- الإنطلاق . ( )
2- الديانة البوذية :
نشأت البوذية في اقليم نيبال شمال الهند الذي كان يسكنه قبائل الساكية , وتنسب البوذية لمؤسسها بوذا الزعيم الهندي الذي ولد حوالي 564ق.م وتوفي 483ق.م من أسرة عريقة من طبقة الكشاتريا , وتعني كلمة (بوذا) الملهم او العارف بالحقائق أو صاحب الأشراق , وأطلق عليه أيضاً (سيد هارثا) , وهو الاسم الذي أطلق عليه عند ولادته , وقد عاش بوذا حياة رغد واطمئنان , وتزوج في التاسعة والعشرين من عمره , و قبل أن يعرف شيئاً عن الشقاء الإنساني , وبعد ان قطع بوذا هذه المرحلة من حياته نبذ حياة الترف وأصبح ناسكا يهيم على وجهه في أماكن متعددة . ( )
ان العقبة الأكثر جدية لاستعادة فلسفة بوذا التي تم التعديل فيها , هي على اية حال , صمته الخاص حيال النقاط الحاسمة , لقد كان اهتمامه الأساسي حول القضايا العملية والعلاجية , وليست حول قضايا تأملية ونظرية , وبدلاً من ان يناقش أموراً كونية , أراد بوذا أن يدخل الناس في نمط مختلف من الحياة , ولكن من الخطأ القول أن الأمور النظرية لم تكن تهمه على الأطلاق , تُبين حواراته انه كان يحلل بعض المسائل المجردة بشكل دقيق جداً , وبأنه كان يمتلك عقلاً رائعاً فيما يتعلق بمسائل ما وراء الطبيعة , لقد كانت مقاومته للفلسفة مقاومة مبدئية , كشخص يدعوه شعوره بأهمية المهمة الملقاة على عاتقه الى اعتبار الهويات مضيعة للوقت .( )
وبعد ثلاث قرون من وفاة بوذا اعتبر الملك أشوكا وابنه ماهيندرا البوذية الدين الرسمي للهند , أدخلاه الى جزيرة سيلان , ثم اتسعت بعد ذلك رقعة البوذية وامتدت الى جميع آسيا , حتى التبت والصين وكوريا واليابان , وفي الوقت الذي اختفت فيه البوذية من الهند موطنها الأول , فقد ثبتت اركانها بعد قرون في بلدان عديدة , والبوذية هي ديانة التأمل الباطني , وانكار الذات , والبوذي ينشد أول ما ينشده ان يكون في طمأنينة وسلام مع نفسه . ( )
أما مصادر الديانة البوذية , فلديهم كتاب مقدس يسمى (تري بيتاكا) يتضمن النصوص الدينية التي احتفظ بها البوذيون في المجامع البوذية المختلفة طيلة قرون طويلة , وهذه النصوص هي :
- المقولات المنسوبة الى بوذا .
- الروايات التي نقلت اعماله .
- ما نُقل من اجابات تلاميذه عن أسئلته , وما أقرّه هو بنفسه .
ويقدس البوذيون (تري بيتاكا) , كما يقدس الهندوس (الفيدا) , مع انهم لا يدّعون ان كتابهم هذا مقدس , وقد كتب أول الأمر باللغة البالية , وهي احدى اللهجات العامة التي تفرعت عن اللغة السنسكريتية التي كانت لغة سكان الهند الشمالية . ( )
ومن أهم عقائد الديانة البوذية هي :
1- تناسخ الأرواح : وهي الإعتقاد بتعدد دورات الحياة الروحية على الأرض , وانتقالها من جسد الى جسد , لتلقى في دورة حياة تالية جزاء ما عملت في دورة حياة سابقة , الى ان تتطهر من (كارما) .
2- الكارما : هو الإعتقاد بقانون العمل والجزاء وكارما هو المسيطر على حياة البشر .
3- نرفانا : وهي كلمة سنسكريتية , وهي في اللغة البالية (نيبانا) , وهي كلمة مركبة من (نر) ومعناها الإنتهاء أو الإنعدام , وفانا تعني الشهوة , وقيل النبل , وبذلك يكون معنى نرفانا هو انتهاء الشهوة او انعدامها , وفي قول آخر فإن معناها عند البوذيين الخمود أي خمود الشهوات .
وفيما يخص الإلوهية , فقد كان بوذا ينهى أصحابه لأن يخوضوا مثل هذه الأبحاث , ويوبخهم على سؤالهم عن الإلوهية , ولا نجد في تعاليمه اثراً يدل على ايمانه بإله أو آلهة
وتقوم دعائم الفلسفة الأخلاقية البوذية على أربع قواعد سمّاها البوذيون (الحقائق السامية الأربعة ) وهذه الحقائق هي :
الحقيقة الأولى : الألم الموجود في الولادة , المرض , العجز , الشيخوخة , الموت , ومتاعب الحياة , وعند بوذا حتى النعم كلها هي الأخرى ألم , فالحياة كلها عنده سلسلة من الآلام .
الحقيقة الثانية : وهي التي تعني أن لكل شيء سبباً , وسبب الألم هو الشهوة والرغبة , والشهوات والرغبات في نظر بوذا هي التي تحمل على التناسخ والظهور من جديد بعد فناء الجسد .
الحقيقة الثالثة : إن سبب الألم قابل للزوال , أي في استطاعة الإنسان التخلص من الآلام , وذلك بمنع جميع الرغبات والشهوات من التحكم فيه , والإفلات منها نهائياً , وانكار الذات مطلقاً , والتحرر من كلمة (أنا) بكل وسيلة .
الحقيقة الرابعة : لإعدام الألم طريق واحد عند بوذا هو اتباع ما سماه (الشُعب الثماني ) , او الممر الأوسط , وهذه الشُعب الثماني هي :
- سلامة الرأي – سلامة النية – سلامة القول - سلامة الفعل – سلامة العيش –سلامة الجهد – سلامة التفكير – سلامة التأمل . ( )
وتهدف البوذية آخر الأمر الى الوصول الى مرحلة (النرفانا) أي الذوبان الروحي الكامل , وقد رفض بوذا الشعائر الهندوسية والقيود المشددة التي يفرضها نظام الشرائح الإجتماعية المتصلبة (الكاست) , وتتسامح البوذية شأنها شأن الهندوسية مع التنوع في العقائد المحلية , بما فيها تعدد الآلهة , وتمثل البوذية اليوم قوة رئيسية فاعلة في كثير من بلدان الشرق الأقصى مثل : تايلاند , وبورما , سريلانكا , والصين , واليابان , وكوريا . ( )
3- الديانة الكنفوشيوسية :
تُنسب هذه الديانة الى كونفوشيوس المولود سنة (551ق.م – 479ق.م ) في مدينة( تسو ) , وهي أحدى مدن مقاطعة (لو) الصينية , وعُرف بإسم (كونج) , وهو اسم القبيلة التي ينتمي إليها و (فوتس) , ومعناها الرئيس او الفيلسوف , فهو بذلك رئيس كونج , أو فيلسوفها . ( )
وقد شغل وظائف عديدة غير انه انسحب منها معتزلاً اياها مكرساً جهده لنشر الآداب الصينية وشرحها , كما حث كونفوشيوس اتباعه على الإصلاح الإجتماعي , وحاول وضع نظام أخلاقي وسياسي ابتغاءاً للسلام والعدالة والسِلم العالمي وأصبحت تعاليمه أساس النظام الخُلقي للكونفوشيوسية التي تأسست أصلاً على العقائد السابقة تم تطورت في بعض الأعمال الهامة في الأدب الصين . ( )
لقد كانت الكونفوشيوسية هي الأساس الثقافي للفئات الحاكمة في الصين القديمة , وقد عاش كونفوشيوس في الوقت نفسه الذي عاش فيه (بوذا) , أي في القرن السادس قبل الميلاد , فكان مثل (لاوتسو) مؤسس الطاوية يعمل في مجال التدريس , ولم يكن يعتبر نفسه رسولاً أو نبياً , كما أن اتباعه اليوم لا يعتبرونه واحداُ من الرموز المقدسة , بل ينظرون إليه بوصفه (احكم الحكماء) , وتسعى الكونفوشيوسية الى تكيف الحياة البشرية , وانسجامها مع عالم الطبيعة الداخلي مع التشديد على إجلاء الآباء والأجداد الأقدمين , وتدعو الطاوية الى مبادئ مماثلة , مع التركيز على التأمل , وعدم استعمال العنف لتحقيق مستويات سامية من الحياة , وعلى الرغم من أن الكثير من عناصر الكونفوشيوسية والطاوية مازالت باقية في عقائد الكثير من الصينيين وممارساتهم , إلا ان هاتين الديانتين قد فقدتا الجانب الأكبر من النفوذ والأثر , نتيجة للحظر الرسمي الذي فرضته الحكومة في الصين عليهما منذ خمسينيات القرن الماضي . ( )
وبخصوص مصادر الديانة الكونفوشيوسية , فهناك مجموعتان تشملان العقيدة الكونفوشيوسية :
المجموعة الأولى : وتسمى الكتب الخمسة التي قام (كونفوشيوس) نفسه بنقلها عن كُتب الأقدمين , وهي :
1- كتاب الأغاني أو الشعر : وفيه (350) أغنية الى جانب ستة تواشيح دينية , تغنّى بمصاحبة الموسيقى .
2- كتاب التأريخ : وفيه وثائق تأريخية , تعود الى التأريخ الموغل في القِدم للصين .
3- كتاب التغييرات : وفيه فلسفة تطور الحوادث الإنسانية , وقد حوّله (كونفوشيوس) الى كتاب علمي لدراسة السلوك الإنساني .
4- كتاب الربيع والخريف : وفيه تأريخ للفترة الواقعة (722-481 ق.م ) .
5- كتاب الطقوس : ويتضمن وصف للطقوس الدينية الصينية القديمة , مع ذكر النظام الأساسي لأسرة (تشو) , وهي الأسرة التي لعبت دوراً هاماً في الـتأريخ الصيني القديم .
أما الكُتب الأربعة , فهي الكُتب التي ألفها (كونفوشيوس) , ونسخها أتباعه , مدونين فيها أقوال أستاذهم , مع تفسيرها تارة , والتعليق عليها تارة أخرى , مشتملة على فلسفة (كونفوشيوس) , وهي كما يلي :
1- كتاب الأخلاق والسياسة .
2- كتاب الإنسجام المركزي .
3- كتاب المنتخبات , ويطلق عليه اسم انجيل كونفوشيوس .
4- كتاب منسيوس وهو يتألف من سبعة كُتب يحتمل أن يكون مؤلفها (منسيوس) نفسه .
أما المعتقدات الأساسية للديانة الكونفوشيوسية , فهي تشتمل على :
أ- الإله : حيث يعتقد الكونفوشيوسيون في الإله الأعظم , أو إله السماء , ويتوجهون إليه بالعبادة وتقديم القرابين .
ب- الملائكة : يقدس الكونفوشيوسيون الملائكة , ويخصونها بتقديم القرابين .
ت- أرواح الأسلاف : كما ويقدس الكونفوشيوسيون أرواح اجدادهم الأقدمين , ويعتقدون في بقائها , ولذلك يحاولون إدخال السرور عليها بالقرابين والموسيقى , ومما لا يعتقده الكونفوشيوسيون هو نُبوة كونفوشيوس , والجنة , والنار , والبعث , أما الأخلاق فهي الأساس التي تدعو اليه الكونفوشيوسية , وهي محور الفلسفة , وأساس الدين , ويسعى إليها بتربية الوازع الداخلي لدى الفرد ليشعر بالإنسجام , ومن ثم يسيطر على حياته بشكل تلقائي , وتظهر الأخلاق الكونفوشيوسية من خلال :
- طاعة الوالد والخضوع له .
- طاعة الأخ الأصغر لأخيه الأكبر .
- طاعة الحاكم و الانقياد له .
- إخلاص الصديق لأصدقائه .
- عدم جرح الآخرين .
- أن تكون الأقوال على قدر الأفعال .
- البُعد عن المحسوبية والوساطة والمحاباة . ( )
4- الديانة الزردشتية :
وسميت بالزردشتية نسبة الى مؤسسها زردشت المولود حوالي 660ق.م , بأذربيجان احدى مقاطعات ميديا على مقربة من بحيرة أورميا في القسم الغربي من بلاد فارس , ويروى عن مولده وعن الفترة التي سبقتها قصص وأساطير كثيرة يشبه بعضها ما يقوله المسيحيون عن المسيح , وأن روح الله قد حلت فيه , او انه أحد الأقانيم المكونة للإله , ويشبه بعضها ما حدث لإبراهيم الخليل من القائه في النار بدون ان يمسه منها ضرر , ويقص بعضها نبأ حوادث كونية وفلكية وحيوانية غريبة كانت إرهاصاً لبعثته وبشيراً بقرب ظهوره . ( )
ومما يروى عنه أنه لما بلغ العشرين من عمره أحس برغبة شديدة في الوقوف على حقيقة الكون , وخالقه , وعلى محتويات الطبيعة , وما وراءها , فآثر العزلة , والرياضة الروحية , والتأمل العميق في ملكوت السماوات والأرض , ثم أخذ يطوف بمختلف بلاد أيران , لتزداد تجاربه , وتزداد معرفته بالحياة , وشؤونها , ولقد استغرقت هذه المرحلة عشر سنين , فبلغ في نهايتها الثلاثين من عمره , وتروي الأسفار الزردشتية أنه حينما بلغ هذه المرحلة نزل عليه الوحي من السماء , فبينما هو واقف على شاطئ نهر دايتي في مقاطعة أذربيجان , إذ به يرى كائناً مضيئاً يهبط من السماء , وكأنه عمود من نور أُرسل اليه ليعرج به الى الملأ الأعلى , ليحظى بشرف المثول امام الإله (أهورامزدا) , وهناك اشرقت عليه معرفة الحق , وتكشفت له أسرار الكون, ورفعت عن بصره الحجب , وأوحى إليه بتفاصيل دين كامل , يبلغه للخلق , فكان الكتاب المقدس (الأبستاق) , ويعتبر الأبستاق الكتاب المقدس للزردشتية , والمصدر الأساسي لهذه الديانة , ومصطلح الأبستاق هو تعريب لكلمة (الأفستا) , ومعناها الأساس والأصل , أو المتن أو السند , وما هو مقرر في الزردشتية هو أن الأبستاق موحى به من الإله أهورامزدا , وهو ليس من وضع زرادشت , ويحتوي الأبستاق على واحد وعشرين سِفراً , وكان مجموع الفصول التي تشتمل عليها هذه الأسفار ألف فصل , وهو يحتوي على تفصيل كامل لعقائد الديانة الزردشتية , وعباداتها , وشرائعها , وتأريخها , وما اجتازه من مراحل , كذلك يحتوي حياة زرادشت قبل وبعد رسالته , وقد فقدت جميع نسخ الأبستاق بعد غزو الإسكندر الأكبر لفارس سنة ( 330ق.م) , وفقدت معها تفاسيرها , لكن نصوص الأبستاق او بعضها بقيت في حوافظ كبار رجال الدين الزردشتيين الفُرس , ويشتمل الأبستاق الموجود حالياً والمترجم الى عدة لغات حية على خمسة أسفار , لا تكاد تتجاوز في مجموع فصولها ربع الأبستاق الذي دُوّن في عهد الساسانيين , وهذه الأسفار المكتشفة هي :
1- سِفر اليسانا , ومعناها العبادة أو التسبيح .
2- سِفر الوسبرد أو القسبرد ومعناها الأدعية والصلوات .
3- سِفر اليشتات ومعناها الترنيمات أو المزامير .
4- سِفر الخوردة أفستا ومعناها الأبستاق الصغير .
5- سِفر الوانديداد , أو الفانديدات ومعناها القانون المضاد للشياطين .
وفيما يخص العقيدة الزردشتية , فيعتقد الباحثون في هذا المجال ان الديانة الزردشتية كانت في أصلها ديانة توحيد , تدعو الى عبادة إله واحد هو (أهورامزدا) , وهي تحارب الشرك , وعبادة الأصنام , عبادة الكواكب , وعبادة قوى الطبيعة , وكانت جميع أدعيتها وصلواتها وأسفارها تتجه الى هذا الإله وحده , كما يظهر ذلك من النصوص التي تصفه بصفات : القِدم , والبقاء , والإرادة , والعلم , والمخالفة للحوادث , وأنه يدرك الأبصار , ولا تدركه الأبصار , ويعلم حقيقة ما في السماوات والأرض , ولا يصل أحد الى معرفة حقيقته , فإسمه يدلُ على ذلك , فهو مركب من كلمات وهي : (أهو) و (مزدا) , معناها على الترتيب ( أنا – الوجود – خالق ) اي : أنا وحدي خالق الوجود أو الكون . ( )
ويظهر فيما بعد أنه قد دخل الديانة الزردشتية كثير من التحريف والتبديل , لذلك أنتهى الأمر بها في عصورها الأخيرة الى ان أصبحت ديانة (مثنوية) أو (ثنوية) , وهذا المصطلح يدلُ على الأعتقاد بوجود إلهين :
أحدهما (أهورامزدا) , ويمثل إلهاً للخير .
والثاني (أهريمان) , ويمثل إلهاً للشّر .
وفي المعتقد الزردشتي أن بين هاذين الإلهين صراعاً دائماً من أجل السيطرة على العالم , لما كانت ذات (أهورامزدا) ذاتاً روحانية خالصة مجردة من الشوائب المادة , فقد رمزت الديانة الزردشتية الى هذه الذات برمزين ماديين هما : الشمس و النار , فكلاهما عنصر متلألئ مضيء , وهما صفتان من صفات (أهورامزدا) , ومن هنا حرص الزرادشتيون على يوقدوا كل هيكل من هياكلها شعلة من النار , تظل متوهجة مضيئة , تُرتل حولها الأدعية وتُقام الصلوات , وقد أنتهى الأمر بالزرادشتيين الى ان أصبحوا يعبدوا النار لذاتها , بعد أن كانت مجرد رمزاً للإله , تشتمل على شيء من صفاته , وتقرب صورته للأذهان , وتوجب الديانة الزردشتية الإيمان باليوم الآخر , والبعث , والنشور , والحساب , والجنة , والنار , ولذلك نصت عقائد الزردشتيين على أن القيامة ستكون على إثر حادث فلكي , وذلك بأن كوكباً يصدم الأرض , فتذوب العناصر , ويفنى (أهريمان) وأنصاره .
وتدعو الديانة الزردشتية الى الفضائل , وتنهى عن مظاهر الرذائل , والفحش , وتقوم الأخلاق في الزردشتية على ثلاث أمور :
- الفكر الطيب .
- الكلم الطيب .
- العمل الطيب .
لقد كان هم زرادشت الخُلُق الصالح البسيط أكثر من اهتمامه باللاهوت , ومن وصاياه :
أنصَب دائماً في الثلاثة : الأفكار الصالحة , والكلمات الصالحة , والأفعال الصالحة , وكُن من الأمور الثلاثة البغيضة على حذر : الأفكار السيئة , والكلمات السيئة , والأفعال السيئة . ( )
المبحث الخامس / التطرف الديني :
ان التطرف يعني الإغراق الشديد في الأخذ بظواهر النصوص الدينية على غير علمٍ بمقاصدها وسوء الفهم لها , قد يصل بالمرء الى درجة الغلو والمنكور في الدين , ويختلف التطرف عن الجريمة والجناح , فالجريمة اساساً هي خروج عن القواعد الإجتماعية أو القانونية أو الأخلاقية , ولكنها حركة يتجاوز مداها الحدود التي وصلت اليها القاعدة وارتضاها المجتمع , ويبدأ المتطرف بسرية كما يبدؤها سائر الناس داخل القاعدة الإجتماعية وفي اتجاهها الصحيح , ولا يمكن في هذه المرحلة مؤاخذته لأنه يتحرك مع القاعدة الجماهيرية وفي اتجاهها , بينما يمكن للدولة أن تؤاخذ المجرم أو محاسبته من اللحظة الأولى لنشاطه لأنه حركة في اتجاه مضاد للقواعد الإجتماعية , والتطرف الديني يعني سوء الفهم للنصوص الذي يؤدي الى التشدد والغلو , ويطلق عادة على بعض الأفراد الذين يلجأون الى التفسير على الناس في أمورهم الدينية . ( )
أما المتطرف فهو الشخص الذي يميل الى احد الطرفين أو الى أحد جانبي هذا الطريق الميسر, فيجاوز حد الإعتدال , ويتخذ مواقف صلبة من العقيدة في وجه الظروف المتغيرة التي قد تتطلب مرونة في التفسير والتطبيق , ويُلزم طرف في مواجهة الطرف الآخر , ويلزم اتجاهاً معاكساً نقيضاً لخصم حقيقي موجود في الواقع أو الخيال .
ويبدأ هذا الموقف عادة بالعزلة والمقاطعة المبني على اصدار احكام فردية على المجتمع أو على جماعة معينة من المجتمع (بالردة أو الكفر) , أو العودة الى الجاهلية , ثم يتحول من مرحلة التطرف الفكري الى استعمال وسيلة العنف مع الغير .
ويرى المتطرف ان هدم المجتمع ومؤسساته هو نوع من التقرب الى الله , وجهاداَ في سبيله , وذلك بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , أو لتحقيق المبادئ التي يؤمن بها الفرد أو جماعته الدينية أو السياسية أو الفئوية , فإنه يخرج من حدود الفكر الى نطاق الجريمة ويتحول الى إرهابي .
ويرى البعض ان من الديمقراطية والحرية الدينية أن نسمح بفكر متطرف اذا كان لا يؤذي أحداً , ولا بأس ان يكون لدينا المتسامح السهل في عقيدته , وايضاً يكون لدينا المتشدد والمُغالي في العقيدة , بجانب الوسط , وهذا امرٌ معترف به في جميع الديانات والمذاهب . ( )
وتتسم الشخصية المتطرفة على المستوى العقلي بإسلوب مغلق جامد للتفكير أو بعدم القدرة على تقبل اية معتقدات تختلف عن معتقداتها أو أفكارها أو معتقدات جماعتها , وعدم القدرة على التأمل والتفكير وأعمال العقل بطريقة مبدعة , ويميل هذا الشخص دائماً الى النظر الى معتقده على انه صادق صدقاً مطلقاً وأبدياً وأنه مصلح لكل زمان ومكان , وبالتالي لا مجال لمناقشة ولا لبحث عن أدلة تؤكده أو تنفيه , ويميل الى ادانة كل اختلاف معه في الرأي , وعلى المستوى الإنفعالي يتسم المتطرف بشدة الإنفعال والتطرف فيه , فالكراهية مطلقة وعنيفة للمخالف أو للمعارض في الرأي , والحب الذي يصل الى حد التقديس والطاعة العمياء لرموز هذا الرأي , والغضب يتفجر عاتياً عند أقل استشارة , وعلى المستوى السلوكي تتسم هذه الشخصية بالإندفاعية , والعدوانية , والميل الى العنف . ( )
أما فيما يخص مجالات التطرف , فهو يفصح عن نفسه في مختلف الممارسات حيث لا يقتصر على مجال واحد دون غيره , فهذا الغلو لم يصبح دينياً فحسب , بل تجاوز الحد لنجده في مختلف ممارسات الحياة اليومية , وليصبح سمة من سمات العلاقات , والتطرف قد يكون تطرفاً في الفكر وحده اذا لم يكن معه سلوك متأثر به , وقد يكون في السلوك وحده مع استقامة الفكر , وقد يكون فيهما مالا يقتصر على مجال دون غيره , وقد يكون التطرف في الحسّيات كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي , وهو الأصل , ثم انتقل الى المعنويات كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك .
وفي مجال الأسرة قد يتمتع الأب بشخصية متسلطة وجامدة في تعاملاته مع زوجته وأبنائه لا يقبل منهم رأياً مخالفاً لرأيه , ويلجأ الى العنف معهم , وقد يبلغ العنف الى حد قتل الآباء أبنائهم , والأبناء آبائهم , وفي المدرسة هناك قد يكون هناك المدرس الشخصية المتسلطة الذي لا يقبل من تلاميذه أدنى اختلاف في الرأي أو مناقشته , وهناك الرئيس المتسلط يفعل نفس الشيء مع مرؤوسيه , وقد يكون الغلو أو التطرف في المجال السياسي , فقد يكون رجل السياسة متسلطاً لا يقبل الحوار أو الرأي الآخر , أو ترفض جماعة سياسية الحوار مع مخاليفها , أو تتمسك بفكرة أو مجموعة أفكار صماء أو جامدة , ويرتبط التطرف بمحاولة أقلية جامدة فكرياً أن تفرض رؤيتها وأسلوبها في التفكير على الأغلبية , ومثل هذا الغلو والتطرف يولّد مشاعر متزايدة من الإحباط والكبت السياسي , وفقدان الثقة بين المشتغلين في هذا المجال . ( )
ومن المظاهر العامة للتطرف الديني الجور على حقوق أخرى يجب أن ترعى , وواجبات يجب أن تؤدى , كذلك إلتزام التشديد أي التشدد في القيام بالواجبات الدينية , ومن مظاهر التطرف ايضاً سوء الظن بالآخرين والنظر اليهم من خلال منظار أسود يُخفي حسناتهم في حين يضخم سيئاتهم , كذلك الغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب , والفظاظة في الدعوة , والترويع من خلال ادخال الخوف على نفس الشخص , ومن الملاحظ ان التطرف لا يظهر إلا نادراً بين المتعلمين وأصحاب الثقافات العالية , فالتعليم يجعل الإنسان يتغلب على معظم مشاكله النفسية , ويسمو بعقله فوق الأحداث التي صادفته في حياته ونشأته , أما الأغلبية فهي من انصاف المتعلمين , ويأخذ الكثير منهم المعرفة الدينية عن طريق السماع من الخطباء والوعاظ , والإستخفاف بآراء الأئمة والمجتهدين والتسليم بحق الإجتهاد المطلق , ومشكلة النصف متعلم انه لا يمكن ان يعترف بأنه نصف جاهل , وايضاً من مظاهر التطرف العزلة عن المجتمع , وعدم التعامل مع الحكومة بأي شكل من الأشكال . ( )
من المؤكد ان التطرف لم ينشأ اعتباطاً , انما له اسبابه ودواعيه المتعددة , ومعرفة السبب غاية في الأهمية ليمكن على اساسه معرفة نوع العلاج , فقد يكون السبب عوامل نفسية خالصة تكمن في العقل الباطن اللاشعور , كما يحدث في شخصية المتطرف الذي ينشأ في ظروف غير طبيعية تترك في نفسيته عقداً نفسية مزمنة .
وتُرجع المدرسة الإجتماعية ظاهرة التطرف الى المجتمع وتقليده والى القيم الثقافية السائدة , كما يربط البعض التطرف بالنظام السياسي , ويربطه البعض الآخر بالأوضاع الإقتصادية فهي التي تصنع الأحداث , كما يربطه البعض بالأوضاع الإجتماعية والأخلاقية المتردية , ولا شك ان الأسرة تتحمل مسؤولية كبيرة عن كل ما يجري , فصراع الأجيال داخل الأسرة الواحدة مسؤول عن تلك الأحداث , وكذلك الصراعات والتشاجر والخلافات بين الوالدين المستمرة , وتعدد الزوجات , أو انشغال الأب , وغياب الأم عن رعاية الأبناء يؤثر في حياة الطفل , فلا يجد القدوة الحسنة منذ نعومة أظفاره , حيث ينشأ وهو يعاني من الحرمان والتشرد والإهانات , ويصبح حاقداً على الحياة كارهاً للمجتمع .
والتعليم هو دعامة المجتمع وضمان سلامة الأخلاق , وقد حظيت المدرسة بالسهم الأوفر في مسؤوليتها عن التطرف , فتدهور التعليم , وغياب القدوة الصالحة من المدرسة , وافتقار المعلم ذي الشخصية المتميزة جعلت المدرسة تفقد سيطرتها على الطلاب , وأهملت محاسبتهم عن الغياب , وانقطعت صلة المدرسة بالبيت , ادى الى انخفاض التحصيل العلمي , وفساد الأخلاق , والتسرب من المدرسة , مما يساعد على ايجاد فراغ رهيب في عقلية الشباب , ويسهل على وجود ارضية خصبة للإعتناق المبادئ المتطرفة .
كما ان لغياب الحوار المفتوح من قبل رجال الفكر الديني لكل الأفكار الواردة أو المتطرفة ومناقشة بعض الجوانب تؤدي الى التطرف في الرأي , هذا فضلاً عما تمارسه بعض وسائل الإعلام , وما ترسخه في نفوس الشباب من قيم غريبة عن المجتمع , لاسيما الأفلام والشرائط التي يساء اختيارها , وتقدم عن طريق السينما والتلفزيون .
هذا وان شيوع القهر والقمع من قبل الدولة يلعب دوراً هاماً في التطرف , فضلاً عن الفراغ السياسي لدى الشباب بالرغم من وجود التنظيمات الشبابية التي لم تؤدي دوراً ايجابياً في خدمته ثقافياً , وتدريبه سياسياً , وايجاد الصلة بينه وبين القادة في القطاعات المختلفة , كما انه قد يكون للفقر والبطالة اثراً في تنشيط السلوك المتطرف لدى الأفراد . ( )
ان من أهم الطرق العملية لمواجهة التطرف الديني هو بأن تكون هناك قنوات سياسية قانونية كمدارس للشباب تثقفهم على خدمة بلادهم , ومستوعبتاً الظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية , كما ينبغي ان يكون هناك منهج للثقافة الدينية , وان يكون تعليم الدين أساسياً في كل مراحل التعليم بالقدر الذي يعرف فيه أصول الدين , وما لا ينبغي ان يُجهل , ومن الضروري ان يواجه التطرف بالحوار الذي يجب ان تداوم عليه وسائل الإعلام المتنوعة مواجهة موضوعية تتعرف فيه على عناصره ووسائله لتقابه بما يصحح المفاهيم . ( )
المبحث السادس / العقلانية والأخلاقية في التدين :
يمكن أن نسجل اثنتي عشر سمة أو ميزة للدين العقلاني أو التعقل الديني , وهي بالتأكيد سمات عامة , وقد تم ادراجها على نحو منطقي متسلسل , فلا تتوقف احدى السمات على سمة لاحقة , بل ربما استندت الى سمة سابقة وتوالدت عنها , وهي كالآتي :
1- فلسفة الحياة : قبل كل شيء يبدو أن المتدين العقلاني يطالب الدين بفلسفة حياة شاملة لكل جوانب حياته ومستوعبة لكافة ثناياها .
2- طلب الحقيقة دون ادعاء احتكارها : ان المتدنيون ديانة عقلانية لا يعتبرون أنفسهم أصحاب حقيقة , وانما يفهمون تدينهم بمعنى انهم طلاب الحقيقة , فتدينهم لا يعني أنهم امتلكوا الحقيقة بل شرعوا في طلبها .
3- الممارسة النقدية : بعد طلب الحقيقة تنبثق الممارسة النقدية والفهم العميق لهذه الممارسة , فالتدين لا يعني التسليم الأعمى والإستغناء عن الأدلة والبراهين , ونبذ النقاش والتمحيص , والإنشداد الى طائفة من المعتقدات والعبادات والمناسك والقيم والأخلاقية , اذ ان الصواب هو حفظ السمة النقدية للتدين .
4- أخلاقية الكون : المتدين العقلاني هو الذي يرى الكون محكوماً بنظم أخلاقية في منتهى الدقة , ومعنى أن يرى الإنسان العالم ذا نظام أخلاقي , هو بعبارة مبسطة أن نعتقد بأن أي ذرة خير أو شرّ يستحيل أن تضيع سدى في هذا الوجود , أي ان الله سبحانه وتعالى نظمه بحيث يجازي على الخير والشّر , فإذا آمن شخص بهاتين القضيتين فهو مؤمن بسيادة نظام أخلاقي دقيق جداً على عالم الوجود .
5- ضبط النفس : للمتدين العقلاني على المستوى السلوكي هو اعتقاده بضرورة ضبط النفس أو الإنضباط الشخصي , وضبط النفس هو عدم الإستسلام للنزوات المؤقتة اذا كانت ضارة , فإذا لم يلحظ الإنسان سوى المنافع والمضار المؤقتة والمكاسب والخسائر المادية , فقد سدّ طريق التدين العقلاني بيديه .
6- سيادة الذات : من خصائص المتدين العقلاني خروجه التدريجي من سيادة الآخر الى سيادة الذات , فالدين في مراحله الأولى لا بد أن يكون تقليدياً تبعياً , فيتبع الإنسان تعاليم دينه بشكل تقليدي من دون أن يعرف الحكمة منها , لكنه في مراحل لاحقة سيحاول الحصول على عمق ديني وفحص وتمحيص لمبادئ عقيدته , تكشف له أسرار الدين وآثاره .
7- الطمأنينة بلا اطمئنان : ان المتدين العقلاني يعيش لوناً من اللايقين , بمعنى انه لا يجد برهاناً عقلياً واحداً على أي من التعاليم والقضايا الدينية أو المذهبية , فالقضايا الدينية رغم أنها لا تعارض العقل لكنها فرّارة من العقل أو مستعصية على العقل , فالطروحات الدينية وخلافاً لتصورات من يعتبرونها معارضة للعقل ليست معارضة للعقل , وخلافاً لآراء من يرونها مدعومة عقلياً ليست كذلك , بل هي مما لا يمكن القبض عليه بالعقل .
8- النزعة الإنسانية : التدين العقلاني يحتم على صاحبة خدمة أبناء جلدته لمحض اعتبارات انسانية , وبعيداً عن أية حواجز قومية أو وطنية أو دينية أو فئوية , فالمتدين العقلاني يرى أن الإنسان بما هو انسان جدير بالإحترام وبإسداء الخدمة والمساعدة .
9- مصارحة الذات : على المتدين العقلاني ان ينظر لنفسه في وقتها الحاضر , ويتقبل ذاته كما هي , وعليه الإعتراف بعدم قدرته على الفكاك من قبضة الماضي الحديدية , فما من بشر قادر على التنصل من ماضيه , وان لا يرى حسناته ومناقبه أشد أو أقل مما هي عليه فعلاً .
10- استيعاب هفوات الآخرين : المتدين العقلاني يحاول تفهم ضعف كل البشر , فمتى يستطيع الإنسان تفهم نواقص الآخرين يا ترى ؟ وبعبرة أخرى ما هي النظرة للآخرين التي تجعلنا نصبر على هفواتهم ونحتملها ؟ اننا نعجز عن استيعاب أخطاء غيرنا من الناس , حينما ننظر اليهم نهائية لا كعملية مؤقتة , فالنظر للآخر كصيرورة نقطة مهمة جداً لا بد من مراعاتها حتى مع الذات , وفيها لا يعتبر الفرد نفسه سوى فاعلية متواصلة تكتنف العديد من التغيرات والتحولات والتكامل , مما يعين على استيعاب الهفوات وعدم اليأس من تلافيها .
11- الثقة بالنفس : لا يتراجع المتدين المتعقل عن عقيدته ومبادئه حتى لو خالف فيها كل المجتمع , انه يقبض على ما يؤمن به , رغم كل ما يتعرض له من ضغوط نفسية ومادية يسلطها عليه المجتمع والبيئة المحيطة , وهو من الرسوخ في ايمانه والإقتناع بمعتقداته الى درجة الإعتصام بها , رغم المكوث وسط بيئة اجتماعية معرضة لها تماماً .
12- تحاشي الوثنية : ان المتدين العقلاني يتجنب كل مظاهر الوثنية والتصنيم , والمراد بالوثنية هنا تأليه أشياء ليست هي الله سبحانه وتعالى , وبتعبير فلسفي إطلاق الأمور النسبية , فإذا جعل الإنسان من النسبي مطلقاً فقد نحت منه صنماً يعبده . ((
وأخيراً وليس آخراً , فالتدين العقلاني الأخلاقي هو ما يمارسه المثقفون المتدينون عادة , وذلك بالإبتعاد عن الخرافة والأساطير , وجعل الدين مستساغاً من الناحية العقلية , وقد أهتم بهذا النمط من التدين رواد الإصلاح الحديث ومن على شاكلتهم الى يومنا هذا , وأحياناً يُعبر عنهم بالمعتزلة الجدد , لكونهم يقومون بتأويل كل ما لا يتلاءم مع التطلعات العقلية الحديثة أو المعاصرة , وهو يخالف الأنماط المعروضة السابقة ويقف على الضد بالخصوص من التدين الخرافي , إذ يجعل من الحاسة العقلية النقدية اساساً للتدين , فهو لا يتقبل كل ما ينسب الى الدين إلا بعد عرضه على هذه الحاسة , فوظيفة هذا النمط من التدين هي عقلنة الدين . ( )
المصادر
1- د. احمد ابو زيد , البناء الاجتماعي – الأنساق , الجزء الثاني , الطبعة الثالثة , , الهيئة المصرية العامة للكتاب , الاسكندرية , 1979.
2- ____________ , تايلور , مطبعة دار المعارف , القاهرة , 1957.
3- احمد الخشاب , الإجتماع الديني , مكتبة القاهرة الحديثة , الطبعة الثالثة , 1970.
4- ____________ , التفكير الإجتماعي , دار المعارف المصرية , 1970.
5- إكرام عدنني , س سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر , منتدى المعرف , الطبعة الأولى , بيروت , لبنان , 2013 , ص141.
6- انتوني غدنز , علم الإجتماع , ترجمة وتقديم : الدكتور فايز الصياغ , الطبعة الرابعة , المنظمة العربية للترجمة , بيروت , 2005, ص569.
7- البروفيسور ميشيل دينكن , معجم علم الاجتماع , ترجمة د. احسان محمد الحسن , دار الرشيد , بغداد , 1980 .
8- توماس هيلاند إريكسون . فين سيفرت نيلسن , تأريخ الأنثروبولوجيا , الطبعة الاولى , ترجمة وتقديم . عبده الريس , المركز القومي للترجمة , مصر ., القاهرة , 2014.
9- جان بوارييه , تأريخ العرقية , ترجمة نسيم نصر , الطبعة الأولى , لبنان , بيروت , 1974.
10- جان فرانسوا دورتيه : معجم العلوم الإنسانية , ترجمة جورج كتوره , ط1 , المؤسسة الجامعية للطباعة والنشر , بيروت , لبنان , 2009 .
11- د. حسين عبد الحميد احمد رشوان , الإرهاب والتطرف من منظور علم الإجتماع , مؤسسة شباب الجامعة , مصر , الاسكندرية , 2002.
12- دانيال هيرفيه ليجيه . جان بول وليم , سوسيولوجيا الدين , ترجمة درويش الحلوجي , المجلس الأعلى للثقافة , مصر , 2005.
13- روجيه باستيد , مبادئ علم الإجتماع الديني , ترجمة محمود قاسم , مكتبة الأنجلو المصرية , القاهرة , 1951 .
14- ريجر هوكاس , الدين ونشوء العلم الحديث , ترجمة زيد العامري الرفاعي , مكتبة مدبولي , مصر , 2008 .
15- زكريا ابراهيم , مشكلة الفلسفة , دار القلم , القاهرة , 1962.
16- د. سامية مصطفى الخشاب , دراسات في الإجتماع الديني , الطبعة الثانية , دار المعارف , مصر , القاهرة , 1988, شاكر مصطفى سليم , قاموس الأنثروبولوجيا , الكويت ,1981.
17- د. عاطف عطية , المجتمع الدين والتقاليد , الطبعة الاولى , منشورات جروس برس , طرابلس , لبنان , 1992.
18- د. عبد الجواد ياسين , الدين والتدين – التشريع والنص والإجتماع , التنوير للطباعة والنشر , لبنان , 2012 .
19- د. عبد الرحمن بدوي , موسوعة الفلسفة , الجزء الثاني , المؤسسة العربية للدراسات والنشر , الطبعة الأولى , 1984 .
20- عبد العزيز عزت , أهم نظم الجماعات المتأخرة , مطبعة دار التأليف , القاهرة , 1956.
21- د. عبد المجيد الرحيم , الأنثروبولوجيا , دار غريب للطباعة , مصر , القاهرة , 1979.
22- د. عبد علي سلمان المالكي , المدخل الى الأنثروبولوجيا الإجتماعية , الطبعة الاولى , مطبعة النجف الأشرف , العراق , 2007.
23- د. عبدالله الخريجي , علم الإجتماع الديني , الطبعة الأولى , رامتان , جدة , 1982 .
24- د. علي سامي النشار , نشأة الدين , دار نشر الثقافة , الإسكندرية , 1949.
25- د. قيس النوري , المدخل الى علم الإنسان , مطبعة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي , العراق , بغداد , 1982 .
26- د. قيس النوري : طبيعة المجتمع البشري في ضوء الانثروبولوجيا الاجتماعية , 1970.
27- كلود ريفيير , الأنثروبولوجيا الإجتماعية للأديان , ترجمة وتقديم , اسامة نبيل , الطبعة الاولى , المركز الثقافي للترجمة , مصر , القاهرة , 2015.
28- كوستاف لوبون , روح الجماعة , ترجمة احمد فتحي زغلول , المطبعة الرحمانية , القاهرة , 1909.
29- لوسي مير , مقدمة في الأنثروبولوجيا الإجتماعية , ترجمة د. شاكر مصطفى سليم , دار الشؤون الثقافية العامة , العراق , بغداد , 1981 .
30- د. محمد عاطف غيث : قاموس علم الاجتماع , دار المعرفة الجامعية , الإسكندرية , 2006 .
31- محمد منّان , الإقتصاد الإسلامي بين النظرية والتطبيق , الإنجلو المصرية , القاهرة , 1962.
32- د. مسعود حايفي , مدخل الى دراسة تأريخ الأديان , دار الأوائل للنشر والتوزيع , سوريا , دمشق , 2010.
33- د. مصطفى ملكيان , التدين العقلاني , ترجمة عبد الجبار الرفاعي , مركز دراسات فلسفة الدين , العراق , بغداد , 2005.
34- هوستن سميث , أديان العالم , ترجمة سعد رستم , دار الجسور الثقافية , سوريا , حلب , 2007.
35- د. يوسف شلحت , نحو نظرية جديدة في علم الإجتماع الديني , دار الفارابي , بيروت , لبنان , 2003.
وتنقسم الأحكام الى :
أولاً / الأحكام الإعتقادية : وهي الأحكام المتعلقة بذات الله وصفاته ورسله والبعث والثواب والعقاب الى غير ذلك من الأحكام التي يجب على المكلف اعتقادها والإيمان بها .
ثانياً / الأحكام الخُلقية : وهي الأحكام المتعلقة ببيان الفضائل الواجب التحلي بها والتي تصور الإنسانية الكاملة , فلقد روضت الشريعة الإسلامية النفوس , على حب الخير ورغبتها في التواضع , وأرشدت الى آداب التزاور والمجالسة , كما نفرت الناس من التكاسل , وتناولت ما يدعو اليه الخُلق القويم والعمل المجدي والتعامل مع افراد المجتمع , فالقواعد العامة للأخلاق ليست من صنعنا بل اننا قد تلقيناها عن المشرع الأسمى , ونستطيع ان نستنبطها من كتابه العزيز وسنة رسوله الكريم .
ثالثاً / الأحكام العملية : وتتعلق بما يصدر عن الشخص المكلف من أقوال وافعال وتصرفات , فالشريعة بعد ان هذبت نفوس الناس وهيأتهم لتقبل الأحكام العملية بينت لهم من هو المكلف الذي يخاطب بأحكام الشريعة ويُلزم بها , وما هي العوارض التي تؤثر على الشخص فتجعله غير مكلف , وبينت فهم الصحيح والباطل والحلال والحرام في تصرفاتهم واتصالاتهم إفراداً وجماعات ودول في السلم والحرب , كما بينت للناس أحكام العبادات التي يتقربون بها الى الله من طهارة وصلاة وصوم وغير ذلك . ( )
ومن أهم المبادئ التي جاء بها التشريع الإسلامي هي :
1- مبدا التوحيد الذي يجمع الناس نحو إله واحد .
2- مبدأ التخاطب مع العقل .
3- مبدأ احاطة العقيدة بالأخلاق الفاضلة المُهذبة للنفس .
4- مبدأ جعل التكاليف الشرعية لإصلاح الروح وتطيرها .
5- مبدأ التآخي بين الدين والدنيا في التشريع .
6- مبدأ التسامح .
7- مبدأ الحرية .
8- مبدأ التكافل الإجتماعي .
هذه المبادئ تنبئ عن متانة البناء الإجتماعي وقوة أركانه وصلاحيته للرجوع اليه والاحتكام له في كل زمان ومكان بين جميع الناس . ( )
ان المفاهيم اللاهوتية الأساسية للإسلام تتطابق بشكل عملي مع المفاهيم اللاهوتية لليهودية والمسيحية الديانتين المتقدمتين على الإسلام ,وهذه المفاهيم المشتركة هي :
1- الله 2- عالم الخليقة 3- النفس الإنسانية 4- يوم الحساب . ( )
ثانياً / الأديان الوضعية :
1- الديانة الهندوسية أو البراهمية :
الهندوسية هي ديانة الغالبية العظمى من سكان الهند اليوم , وقد قامت على انقاض الديانة الهندية وتشربت أفكارها , وورثت منها الملامح الهندية القديمة والأساطير الروحانية المختلفة التي نمت في شيه الجزيرة الهندية قبل دخول الآريين , ويطلق البعض على هذه الديانة اسم البرهمية ابتدأ من القرن الثامن قبل الميلاد نسبة الى براهما , وهو القوة العظيمة السحرية الكامنة التي تطلب كثيراً من العبادات كقراءة الأدعية وانشاد الأناشيد وتقديم القرابين , ومن براهما اشتقت كلمة البراهمة لتكون علماً على رجال الدين الذين كان يعتقد انهم يتصلون في طبائعهم بالعنصر الإلهي , وهم لهذا كانوا كهنة الأمة , ولا تجوز الذبائح إلا في حضرتهم وعلى أيديهم . ( )
والدين الهندوسي دين معقد , ولا يُستطاع تعريفه بكلمات , ولا بصفحات , حتى الهندوس أنفسهم لا يستطيعون ذلك , وتقوم الهندوسية بين البشر وبين الله , وليس فيها مجال للأنبياء , ولا للرُسل , ولقد مرت الهندوسية في أطوار ثلاثة , كانت في طورها الأول هندية خالصة , وانتهى هذا الطور في القرن الثالث قبل الميلاد , ثم دخلت في طورها الثاني , وهو طور التأثر بالعقائد الأخرى , كان ذلك بعد دخول الإسكندر الى الهند , واختلاط الهنود بجنوده الذين كانوا خليطاً من اليونانيين والمصريين والآراميين والكلدانيين والفرس وغيرهم , وأما الطور الثالث , فقد بدأ بالفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي . ( )
أما مصادر الديانة الهندوسية فهي ثلاث مصادر رئيسية هي :
الأول - الفيدا : وهي الأسفار المقدسة للديانة الهندوسية , ومعناها المعرفة والعلم , وهي مجموعة أسفار قديمة يعتقد الهندوس أن جامعها هو حكيم من حكمائهم عُرف بإسم (فيدا فياسا) , ولم يعرف المؤرخون عصر كتابتها على وجه التحقيق والضبط , وأقصى ما تأكد لديهم أن الفيدا كانت موجودة قبل خمسة عشر قرناً , للفيدا قيمة تأريخية كبرى , فهي تشمل على الأدب الديني , وتحكي حياة الهندوس الدينية والسياسية والثقافية .
الثاني - قوانين (مانو) : تشمل قوانين (مانو) أو (مانافا دارما ساسترا) - أي كتاب قوانين مانو – على تفصيل الدين الهندوسي من حيث العبادات والمعاملات والنظم الإجتماعية ذات العلاقة بالسياسة والإقتصاد والأسرة والرق والقوانين المدنية , والأخلاق (مانو أو مانفا) , ولا يُعرف تأريخ تدوينه على وجه اليقين , وتذهب أرجح الآراء الى أنه كُتب في القرن الثالث عشر قبل الميلاد , ويُعد كتاب قوانين مانو أهم مرجع للباحث في الدين البرهمي لأنه استوعب جميع نواحي هذه الديانة , فهو يعتمد في ذلك على اسفار الفيدا نفسها ويشمل حوالي (2684) مادة او فقرة , مبوبة في انثي عشر باباً أو فصلاً .
الثالث - اليوبانيشاد : لنصوص الفيدا شروح وحواشي , وهذه الشروح والحواشي صارت بعد زمن جزءاً مكملاً للنصوص الأصلية , وجُمعت هذه الشروح في شكل مجموعات أو رسائل فلسفية أطلق عليها (اليوبانيشادات) , وتعني كلمة اليوبانيشاد الجلوس بقرب , أو الجلوس مقابل , ونفهم من هذه التسمية أنها كانت على درجة عالية من السرية , والذي بين الأيدي من اليوبانيشادات 250 يوبانيشادة . ( )
والعقائد عند الهندوسية هي كالآتي :
1- التعدد في البرهمية : اشتملت الديانة الهندوسية على انواع شتى من الآلهة , مكان منها آلهة تمثل قوى الطبيعة (كالمطر , السحاب , والنار , والريح , والبحار ) ويجمعونها في ديانة شمسية تلتقي بأديان أخرى , كما اشتملت على عبادة الأسلاف .
2- التثليث في البرهمية : انتهى الهندوس الى جعل هذه الآلهة المتعددة الى ثلاثة هي : - الإله (براهما) في صورة الخالق – الإله (فشنو) في صورة الحافظ الرحيم – الإله سيفا في صورة الهادم .
3- التوحيد في البرهمية .
4- عقيدة الكارما العمل والجزاء .
5- عقيدة التناسخ .
6- الإنطلاق . ( )
2- الديانة البوذية :
نشأت البوذية في اقليم نيبال شمال الهند الذي كان يسكنه قبائل الساكية , وتنسب البوذية لمؤسسها بوذا الزعيم الهندي الذي ولد حوالي 564ق.م وتوفي 483ق.م من أسرة عريقة من طبقة الكشاتريا , وتعني كلمة (بوذا) الملهم او العارف بالحقائق أو صاحب الأشراق , وأطلق عليه أيضاً (سيد هارثا) , وهو الاسم الذي أطلق عليه عند ولادته , وقد عاش بوذا حياة رغد واطمئنان , وتزوج في التاسعة والعشرين من عمره , و قبل أن يعرف شيئاً عن الشقاء الإنساني , وبعد ان قطع بوذا هذه المرحلة من حياته نبذ حياة الترف وأصبح ناسكا يهيم على وجهه في أماكن متعددة . ( )
ان العقبة الأكثر جدية لاستعادة فلسفة بوذا التي تم التعديل فيها , هي على اية حال , صمته الخاص حيال النقاط الحاسمة , لقد كان اهتمامه الأساسي حول القضايا العملية والعلاجية , وليست حول قضايا تأملية ونظرية , وبدلاً من ان يناقش أموراً كونية , أراد بوذا أن يدخل الناس في نمط مختلف من الحياة , ولكن من الخطأ القول أن الأمور النظرية لم تكن تهمه على الأطلاق , تُبين حواراته انه كان يحلل بعض المسائل المجردة بشكل دقيق جداً , وبأنه كان يمتلك عقلاً رائعاً فيما يتعلق بمسائل ما وراء الطبيعة , لقد كانت مقاومته للفلسفة مقاومة مبدئية , كشخص يدعوه شعوره بأهمية المهمة الملقاة على عاتقه الى اعتبار الهويات مضيعة للوقت .( )
وبعد ثلاث قرون من وفاة بوذا اعتبر الملك أشوكا وابنه ماهيندرا البوذية الدين الرسمي للهند , أدخلاه الى جزيرة سيلان , ثم اتسعت بعد ذلك رقعة البوذية وامتدت الى جميع آسيا , حتى التبت والصين وكوريا واليابان , وفي الوقت الذي اختفت فيه البوذية من الهند موطنها الأول , فقد ثبتت اركانها بعد قرون في بلدان عديدة , والبوذية هي ديانة التأمل الباطني , وانكار الذات , والبوذي ينشد أول ما ينشده ان يكون في طمأنينة وسلام مع نفسه . ( )
أما مصادر الديانة البوذية , فلديهم كتاب مقدس يسمى (تري بيتاكا) يتضمن النصوص الدينية التي احتفظ بها البوذيون في المجامع البوذية المختلفة طيلة قرون طويلة , وهذه النصوص هي :
- المقولات المنسوبة الى بوذا .
- الروايات التي نقلت اعماله .
- ما نُقل من اجابات تلاميذه عن أسئلته , وما أقرّه هو بنفسه .
ويقدس البوذيون (تري بيتاكا) , كما يقدس الهندوس (الفيدا) , مع انهم لا يدّعون ان كتابهم هذا مقدس , وقد كتب أول الأمر باللغة البالية , وهي احدى اللهجات العامة التي تفرعت عن اللغة السنسكريتية التي كانت لغة سكان الهند الشمالية . ( )
ومن أهم عقائد الديانة البوذية هي :
1- تناسخ الأرواح : وهي الإعتقاد بتعدد دورات الحياة الروحية على الأرض , وانتقالها من جسد الى جسد , لتلقى في دورة حياة تالية جزاء ما عملت في دورة حياة سابقة , الى ان تتطهر من (كارما) .
2- الكارما : هو الإعتقاد بقانون العمل والجزاء وكارما هو المسيطر على حياة البشر .
3- نرفانا : وهي كلمة سنسكريتية , وهي في اللغة البالية (نيبانا) , وهي كلمة مركبة من (نر) ومعناها الإنتهاء أو الإنعدام , وفانا تعني الشهوة , وقيل النبل , وبذلك يكون معنى نرفانا هو انتهاء الشهوة او انعدامها , وفي قول آخر فإن معناها عند البوذيين الخمود أي خمود الشهوات .
وفيما يخص الإلوهية , فقد كان بوذا ينهى أصحابه لأن يخوضوا مثل هذه الأبحاث , ويوبخهم على سؤالهم عن الإلوهية , ولا نجد في تعاليمه اثراً يدل على ايمانه بإله أو آلهة
وتقوم دعائم الفلسفة الأخلاقية البوذية على أربع قواعد سمّاها البوذيون (الحقائق السامية الأربعة ) وهذه الحقائق هي :
الحقيقة الأولى : الألم الموجود في الولادة , المرض , العجز , الشيخوخة , الموت , ومتاعب الحياة , وعند بوذا حتى النعم كلها هي الأخرى ألم , فالحياة كلها عنده سلسلة من الآلام .
الحقيقة الثانية : وهي التي تعني أن لكل شيء سبباً , وسبب الألم هو الشهوة والرغبة , والشهوات والرغبات في نظر بوذا هي التي تحمل على التناسخ والظهور من جديد بعد فناء الجسد .
الحقيقة الثالثة : إن سبب الألم قابل للزوال , أي في استطاعة الإنسان التخلص من الآلام , وذلك بمنع جميع الرغبات والشهوات من التحكم فيه , والإفلات منها نهائياً , وانكار الذات مطلقاً , والتحرر من كلمة (أنا) بكل وسيلة .
الحقيقة الرابعة : لإعدام الألم طريق واحد عند بوذا هو اتباع ما سماه (الشُعب الثماني ) , او الممر الأوسط , وهذه الشُعب الثماني هي :
- سلامة الرأي – سلامة النية – سلامة القول - سلامة الفعل – سلامة العيش –سلامة الجهد – سلامة التفكير – سلامة التأمل . ( )
وتهدف البوذية آخر الأمر الى الوصول الى مرحلة (النرفانا) أي الذوبان الروحي الكامل , وقد رفض بوذا الشعائر الهندوسية والقيود المشددة التي يفرضها نظام الشرائح الإجتماعية المتصلبة (الكاست) , وتتسامح البوذية شأنها شأن الهندوسية مع التنوع في العقائد المحلية , بما فيها تعدد الآلهة , وتمثل البوذية اليوم قوة رئيسية فاعلة في كثير من بلدان الشرق الأقصى مثل : تايلاند , وبورما , سريلانكا , والصين , واليابان , وكوريا . ( )
3- الديانة الكنفوشيوسية :
تُنسب هذه الديانة الى كونفوشيوس المولود سنة (551ق.م – 479ق.م ) في مدينة( تسو ) , وهي أحدى مدن مقاطعة (لو) الصينية , وعُرف بإسم (كونج) , وهو اسم القبيلة التي ينتمي إليها و (فوتس) , ومعناها الرئيس او الفيلسوف , فهو بذلك رئيس كونج , أو فيلسوفها . ( )
وقد شغل وظائف عديدة غير انه انسحب منها معتزلاً اياها مكرساً جهده لنشر الآداب الصينية وشرحها , كما حث كونفوشيوس اتباعه على الإصلاح الإجتماعي , وحاول وضع نظام أخلاقي وسياسي ابتغاءاً للسلام والعدالة والسِلم العالمي وأصبحت تعاليمه أساس النظام الخُلقي للكونفوشيوسية التي تأسست أصلاً على العقائد السابقة تم تطورت في بعض الأعمال الهامة في الأدب الصين . ( )
لقد كانت الكونفوشيوسية هي الأساس الثقافي للفئات الحاكمة في الصين القديمة , وقد عاش كونفوشيوس في الوقت نفسه الذي عاش فيه (بوذا) , أي في القرن السادس قبل الميلاد , فكان مثل (لاوتسو) مؤسس الطاوية يعمل في مجال التدريس , ولم يكن يعتبر نفسه رسولاً أو نبياً , كما أن اتباعه اليوم لا يعتبرونه واحداُ من الرموز المقدسة , بل ينظرون إليه بوصفه (احكم الحكماء) , وتسعى الكونفوشيوسية الى تكيف الحياة البشرية , وانسجامها مع عالم الطبيعة الداخلي مع التشديد على إجلاء الآباء والأجداد الأقدمين , وتدعو الطاوية الى مبادئ مماثلة , مع التركيز على التأمل , وعدم استعمال العنف لتحقيق مستويات سامية من الحياة , وعلى الرغم من أن الكثير من عناصر الكونفوشيوسية والطاوية مازالت باقية في عقائد الكثير من الصينيين وممارساتهم , إلا ان هاتين الديانتين قد فقدتا الجانب الأكبر من النفوذ والأثر , نتيجة للحظر الرسمي الذي فرضته الحكومة في الصين عليهما منذ خمسينيات القرن الماضي . ( )
وبخصوص مصادر الديانة الكونفوشيوسية , فهناك مجموعتان تشملان العقيدة الكونفوشيوسية :
المجموعة الأولى : وتسمى الكتب الخمسة التي قام (كونفوشيوس) نفسه بنقلها عن كُتب الأقدمين , وهي :
1- كتاب الأغاني أو الشعر : وفيه (350) أغنية الى جانب ستة تواشيح دينية , تغنّى بمصاحبة الموسيقى .
2- كتاب التأريخ : وفيه وثائق تأريخية , تعود الى التأريخ الموغل في القِدم للصين .
3- كتاب التغييرات : وفيه فلسفة تطور الحوادث الإنسانية , وقد حوّله (كونفوشيوس) الى كتاب علمي لدراسة السلوك الإنساني .
4- كتاب الربيع والخريف : وفيه تأريخ للفترة الواقعة (722-481 ق.م ) .
5- كتاب الطقوس : ويتضمن وصف للطقوس الدينية الصينية القديمة , مع ذكر النظام الأساسي لأسرة (تشو) , وهي الأسرة التي لعبت دوراً هاماً في الـتأريخ الصيني القديم .
أما الكُتب الأربعة , فهي الكُتب التي ألفها (كونفوشيوس) , ونسخها أتباعه , مدونين فيها أقوال أستاذهم , مع تفسيرها تارة , والتعليق عليها تارة أخرى , مشتملة على فلسفة (كونفوشيوس) , وهي كما يلي :
1- كتاب الأخلاق والسياسة .
2- كتاب الإنسجام المركزي .
3- كتاب المنتخبات , ويطلق عليه اسم انجيل كونفوشيوس .
4- كتاب منسيوس وهو يتألف من سبعة كُتب يحتمل أن يكون مؤلفها (منسيوس) نفسه .
أما المعتقدات الأساسية للديانة الكونفوشيوسية , فهي تشتمل على :
أ- الإله : حيث يعتقد الكونفوشيوسيون في الإله الأعظم , أو إله السماء , ويتوجهون إليه بالعبادة وتقديم القرابين .
ب- الملائكة : يقدس الكونفوشيوسيون الملائكة , ويخصونها بتقديم القرابين .
ت- أرواح الأسلاف : كما ويقدس الكونفوشيوسيون أرواح اجدادهم الأقدمين , ويعتقدون في بقائها , ولذلك يحاولون إدخال السرور عليها بالقرابين والموسيقى , ومما لا يعتقده الكونفوشيوسيون هو نُبوة كونفوشيوس , والجنة , والنار , والبعث , أما الأخلاق فهي الأساس التي تدعو اليه الكونفوشيوسية , وهي محور الفلسفة , وأساس الدين , ويسعى إليها بتربية الوازع الداخلي لدى الفرد ليشعر بالإنسجام , ومن ثم يسيطر على حياته بشكل تلقائي , وتظهر الأخلاق الكونفوشيوسية من خلال :
- طاعة الوالد والخضوع له .
- طاعة الأخ الأصغر لأخيه الأكبر .
- طاعة الحاكم و الانقياد له .
- إخلاص الصديق لأصدقائه .
- عدم جرح الآخرين .
- أن تكون الأقوال على قدر الأفعال .
- البُعد عن المحسوبية والوساطة والمحاباة . ( )
4- الديانة الزردشتية :
وسميت بالزردشتية نسبة الى مؤسسها زردشت المولود حوالي 660ق.م , بأذربيجان احدى مقاطعات ميديا على مقربة من بحيرة أورميا في القسم الغربي من بلاد فارس , ويروى عن مولده وعن الفترة التي سبقتها قصص وأساطير كثيرة يشبه بعضها ما يقوله المسيحيون عن المسيح , وأن روح الله قد حلت فيه , او انه أحد الأقانيم المكونة للإله , ويشبه بعضها ما حدث لإبراهيم الخليل من القائه في النار بدون ان يمسه منها ضرر , ويقص بعضها نبأ حوادث كونية وفلكية وحيوانية غريبة كانت إرهاصاً لبعثته وبشيراً بقرب ظهوره . ( )
ومما يروى عنه أنه لما بلغ العشرين من عمره أحس برغبة شديدة في الوقوف على حقيقة الكون , وخالقه , وعلى محتويات الطبيعة , وما وراءها , فآثر العزلة , والرياضة الروحية , والتأمل العميق في ملكوت السماوات والأرض , ثم أخذ يطوف بمختلف بلاد أيران , لتزداد تجاربه , وتزداد معرفته بالحياة , وشؤونها , ولقد استغرقت هذه المرحلة عشر سنين , فبلغ في نهايتها الثلاثين من عمره , وتروي الأسفار الزردشتية أنه حينما بلغ هذه المرحلة نزل عليه الوحي من السماء , فبينما هو واقف على شاطئ نهر دايتي في مقاطعة أذربيجان , إذ به يرى كائناً مضيئاً يهبط من السماء , وكأنه عمود من نور أُرسل اليه ليعرج به الى الملأ الأعلى , ليحظى بشرف المثول امام الإله (أهورامزدا) , وهناك اشرقت عليه معرفة الحق , وتكشفت له أسرار الكون, ورفعت عن بصره الحجب , وأوحى إليه بتفاصيل دين كامل , يبلغه للخلق , فكان الكتاب المقدس (الأبستاق) , ويعتبر الأبستاق الكتاب المقدس للزردشتية , والمصدر الأساسي لهذه الديانة , ومصطلح الأبستاق هو تعريب لكلمة (الأفستا) , ومعناها الأساس والأصل , أو المتن أو السند , وما هو مقرر في الزردشتية هو أن الأبستاق موحى به من الإله أهورامزدا , وهو ليس من وضع زرادشت , ويحتوي الأبستاق على واحد وعشرين سِفراً , وكان مجموع الفصول التي تشتمل عليها هذه الأسفار ألف فصل , وهو يحتوي على تفصيل كامل لعقائد الديانة الزردشتية , وعباداتها , وشرائعها , وتأريخها , وما اجتازه من مراحل , كذلك يحتوي حياة زرادشت قبل وبعد رسالته , وقد فقدت جميع نسخ الأبستاق بعد غزو الإسكندر الأكبر لفارس سنة ( 330ق.م) , وفقدت معها تفاسيرها , لكن نصوص الأبستاق او بعضها بقيت في حوافظ كبار رجال الدين الزردشتيين الفُرس , ويشتمل الأبستاق الموجود حالياً والمترجم الى عدة لغات حية على خمسة أسفار , لا تكاد تتجاوز في مجموع فصولها ربع الأبستاق الذي دُوّن في عهد الساسانيين , وهذه الأسفار المكتشفة هي :
1- سِفر اليسانا , ومعناها العبادة أو التسبيح .
2- سِفر الوسبرد أو القسبرد ومعناها الأدعية والصلوات .
3- سِفر اليشتات ومعناها الترنيمات أو المزامير .
4- سِفر الخوردة أفستا ومعناها الأبستاق الصغير .
5- سِفر الوانديداد , أو الفانديدات ومعناها القانون المضاد للشياطين .
وفيما يخص العقيدة الزردشتية , فيعتقد الباحثون في هذا المجال ان الديانة الزردشتية كانت في أصلها ديانة توحيد , تدعو الى عبادة إله واحد هو (أهورامزدا) , وهي تحارب الشرك , وعبادة الأصنام , عبادة الكواكب , وعبادة قوى الطبيعة , وكانت جميع أدعيتها وصلواتها وأسفارها تتجه الى هذا الإله وحده , كما يظهر ذلك من النصوص التي تصفه بصفات : القِدم , والبقاء , والإرادة , والعلم , والمخالفة للحوادث , وأنه يدرك الأبصار , ولا تدركه الأبصار , ويعلم حقيقة ما في السماوات والأرض , ولا يصل أحد الى معرفة حقيقته , فإسمه يدلُ على ذلك , فهو مركب من كلمات وهي : (أهو) و (مزدا) , معناها على الترتيب ( أنا – الوجود – خالق ) اي : أنا وحدي خالق الوجود أو الكون . ( )
ويظهر فيما بعد أنه قد دخل الديانة الزردشتية كثير من التحريف والتبديل , لذلك أنتهى الأمر بها في عصورها الأخيرة الى ان أصبحت ديانة (مثنوية) أو (ثنوية) , وهذا المصطلح يدلُ على الأعتقاد بوجود إلهين :
أحدهما (أهورامزدا) , ويمثل إلهاً للخير .
والثاني (أهريمان) , ويمثل إلهاً للشّر .
وفي المعتقد الزردشتي أن بين هاذين الإلهين صراعاً دائماً من أجل السيطرة على العالم , لما كانت ذات (أهورامزدا) ذاتاً روحانية خالصة مجردة من الشوائب المادة , فقد رمزت الديانة الزردشتية الى هذه الذات برمزين ماديين هما : الشمس و النار , فكلاهما عنصر متلألئ مضيء , وهما صفتان من صفات (أهورامزدا) , ومن هنا حرص الزرادشتيون على يوقدوا كل هيكل من هياكلها شعلة من النار , تظل متوهجة مضيئة , تُرتل حولها الأدعية وتُقام الصلوات , وقد أنتهى الأمر بالزرادشتيين الى ان أصبحوا يعبدوا النار لذاتها , بعد أن كانت مجرد رمزاً للإله , تشتمل على شيء من صفاته , وتقرب صورته للأذهان , وتوجب الديانة الزردشتية الإيمان باليوم الآخر , والبعث , والنشور , والحساب , والجنة , والنار , ولذلك نصت عقائد الزردشتيين على أن القيامة ستكون على إثر حادث فلكي , وذلك بأن كوكباً يصدم الأرض , فتذوب العناصر , ويفنى (أهريمان) وأنصاره .
وتدعو الديانة الزردشتية الى الفضائل , وتنهى عن مظاهر الرذائل , والفحش , وتقوم الأخلاق في الزردشتية على ثلاث أمور :
- الفكر الطيب .
- الكلم الطيب .
- العمل الطيب .
لقد كان هم زرادشت الخُلُق الصالح البسيط أكثر من اهتمامه باللاهوت , ومن وصاياه :
أنصَب دائماً في الثلاثة : الأفكار الصالحة , والكلمات الصالحة , والأفعال الصالحة , وكُن من الأمور الثلاثة البغيضة على حذر : الأفكار السيئة , والكلمات السيئة , والأفعال السيئة . ( )
المبحث الخامس / التطرف الديني :
ان التطرف يعني الإغراق الشديد في الأخذ بظواهر النصوص الدينية على غير علمٍ بمقاصدها وسوء الفهم لها , قد يصل بالمرء الى درجة الغلو والمنكور في الدين , ويختلف التطرف عن الجريمة والجناح , فالجريمة اساساً هي خروج عن القواعد الإجتماعية أو القانونية أو الأخلاقية , ولكنها حركة يتجاوز مداها الحدود التي وصلت اليها القاعدة وارتضاها المجتمع , ويبدأ المتطرف بسرية كما يبدؤها سائر الناس داخل القاعدة الإجتماعية وفي اتجاهها الصحيح , ولا يمكن في هذه المرحلة مؤاخذته لأنه يتحرك مع القاعدة الجماهيرية وفي اتجاهها , بينما يمكن للدولة أن تؤاخذ المجرم أو محاسبته من اللحظة الأولى لنشاطه لأنه حركة في اتجاه مضاد للقواعد الإجتماعية , والتطرف الديني يعني سوء الفهم للنصوص الذي يؤدي الى التشدد والغلو , ويطلق عادة على بعض الأفراد الذين يلجأون الى التفسير على الناس في أمورهم الدينية . ( )
أما المتطرف فهو الشخص الذي يميل الى احد الطرفين أو الى أحد جانبي هذا الطريق الميسر, فيجاوز حد الإعتدال , ويتخذ مواقف صلبة من العقيدة في وجه الظروف المتغيرة التي قد تتطلب مرونة في التفسير والتطبيق , ويُلزم طرف في مواجهة الطرف الآخر , ويلزم اتجاهاً معاكساً نقيضاً لخصم حقيقي موجود في الواقع أو الخيال .
ويبدأ هذا الموقف عادة بالعزلة والمقاطعة المبني على اصدار احكام فردية على المجتمع أو على جماعة معينة من المجتمع (بالردة أو الكفر) , أو العودة الى الجاهلية , ثم يتحول من مرحلة التطرف الفكري الى استعمال وسيلة العنف مع الغير .
ويرى المتطرف ان هدم المجتمع ومؤسساته هو نوع من التقرب الى الله , وجهاداَ في سبيله , وذلك بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , أو لتحقيق المبادئ التي يؤمن بها الفرد أو جماعته الدينية أو السياسية أو الفئوية , فإنه يخرج من حدود الفكر الى نطاق الجريمة ويتحول الى إرهابي .
ويرى البعض ان من الديمقراطية والحرية الدينية أن نسمح بفكر متطرف اذا كان لا يؤذي أحداً , ولا بأس ان يكون لدينا المتسامح السهل في عقيدته , وايضاً يكون لدينا المتشدد والمُغالي في العقيدة , بجانب الوسط , وهذا امرٌ معترف به في جميع الديانات والمذاهب . ( )
وتتسم الشخصية المتطرفة على المستوى العقلي بإسلوب مغلق جامد للتفكير أو بعدم القدرة على تقبل اية معتقدات تختلف عن معتقداتها أو أفكارها أو معتقدات جماعتها , وعدم القدرة على التأمل والتفكير وأعمال العقل بطريقة مبدعة , ويميل هذا الشخص دائماً الى النظر الى معتقده على انه صادق صدقاً مطلقاً وأبدياً وأنه مصلح لكل زمان ومكان , وبالتالي لا مجال لمناقشة ولا لبحث عن أدلة تؤكده أو تنفيه , ويميل الى ادانة كل اختلاف معه في الرأي , وعلى المستوى الإنفعالي يتسم المتطرف بشدة الإنفعال والتطرف فيه , فالكراهية مطلقة وعنيفة للمخالف أو للمعارض في الرأي , والحب الذي يصل الى حد التقديس والطاعة العمياء لرموز هذا الرأي , والغضب يتفجر عاتياً عند أقل استشارة , وعلى المستوى السلوكي تتسم هذه الشخصية بالإندفاعية , والعدوانية , والميل الى العنف . ( )
أما فيما يخص مجالات التطرف , فهو يفصح عن نفسه في مختلف الممارسات حيث لا يقتصر على مجال واحد دون غيره , فهذا الغلو لم يصبح دينياً فحسب , بل تجاوز الحد لنجده في مختلف ممارسات الحياة اليومية , وليصبح سمة من سمات العلاقات , والتطرف قد يكون تطرفاً في الفكر وحده اذا لم يكن معه سلوك متأثر به , وقد يكون في السلوك وحده مع استقامة الفكر , وقد يكون فيهما مالا يقتصر على مجال دون غيره , وقد يكون التطرف في الحسّيات كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي , وهو الأصل , ثم انتقل الى المعنويات كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك .
وفي مجال الأسرة قد يتمتع الأب بشخصية متسلطة وجامدة في تعاملاته مع زوجته وأبنائه لا يقبل منهم رأياً مخالفاً لرأيه , ويلجأ الى العنف معهم , وقد يبلغ العنف الى حد قتل الآباء أبنائهم , والأبناء آبائهم , وفي المدرسة هناك قد يكون هناك المدرس الشخصية المتسلطة الذي لا يقبل من تلاميذه أدنى اختلاف في الرأي أو مناقشته , وهناك الرئيس المتسلط يفعل نفس الشيء مع مرؤوسيه , وقد يكون الغلو أو التطرف في المجال السياسي , فقد يكون رجل السياسة متسلطاً لا يقبل الحوار أو الرأي الآخر , أو ترفض جماعة سياسية الحوار مع مخاليفها , أو تتمسك بفكرة أو مجموعة أفكار صماء أو جامدة , ويرتبط التطرف بمحاولة أقلية جامدة فكرياً أن تفرض رؤيتها وأسلوبها في التفكير على الأغلبية , ومثل هذا الغلو والتطرف يولّد مشاعر متزايدة من الإحباط والكبت السياسي , وفقدان الثقة بين المشتغلين في هذا المجال . ( )
ومن المظاهر العامة للتطرف الديني الجور على حقوق أخرى يجب أن ترعى , وواجبات يجب أن تؤدى , كذلك إلتزام التشديد أي التشدد في القيام بالواجبات الدينية , ومن مظاهر التطرف ايضاً سوء الظن بالآخرين والنظر اليهم من خلال منظار أسود يُخفي حسناتهم في حين يضخم سيئاتهم , كذلك الغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب , والفظاظة في الدعوة , والترويع من خلال ادخال الخوف على نفس الشخص , ومن الملاحظ ان التطرف لا يظهر إلا نادراً بين المتعلمين وأصحاب الثقافات العالية , فالتعليم يجعل الإنسان يتغلب على معظم مشاكله النفسية , ويسمو بعقله فوق الأحداث التي صادفته في حياته ونشأته , أما الأغلبية فهي من انصاف المتعلمين , ويأخذ الكثير منهم المعرفة الدينية عن طريق السماع من الخطباء والوعاظ , والإستخفاف بآراء الأئمة والمجتهدين والتسليم بحق الإجتهاد المطلق , ومشكلة النصف متعلم انه لا يمكن ان يعترف بأنه نصف جاهل , وايضاً من مظاهر التطرف العزلة عن المجتمع , وعدم التعامل مع الحكومة بأي شكل من الأشكال . ( )
من المؤكد ان التطرف لم ينشأ اعتباطاً , انما له اسبابه ودواعيه المتعددة , ومعرفة السبب غاية في الأهمية ليمكن على اساسه معرفة نوع العلاج , فقد يكون السبب عوامل نفسية خالصة تكمن في العقل الباطن اللاشعور , كما يحدث في شخصية المتطرف الذي ينشأ في ظروف غير طبيعية تترك في نفسيته عقداً نفسية مزمنة .
وتُرجع المدرسة الإجتماعية ظاهرة التطرف الى المجتمع وتقليده والى القيم الثقافية السائدة , كما يربط البعض التطرف بالنظام السياسي , ويربطه البعض الآخر بالأوضاع الإقتصادية فهي التي تصنع الأحداث , كما يربطه البعض بالأوضاع الإجتماعية والأخلاقية المتردية , ولا شك ان الأسرة تتحمل مسؤولية كبيرة عن كل ما يجري , فصراع الأجيال داخل الأسرة الواحدة مسؤول عن تلك الأحداث , وكذلك الصراعات والتشاجر والخلافات بين الوالدين المستمرة , وتعدد الزوجات , أو انشغال الأب , وغياب الأم عن رعاية الأبناء يؤثر في حياة الطفل , فلا يجد القدوة الحسنة منذ نعومة أظفاره , حيث ينشأ وهو يعاني من الحرمان والتشرد والإهانات , ويصبح حاقداً على الحياة كارهاً للمجتمع .
والتعليم هو دعامة المجتمع وضمان سلامة الأخلاق , وقد حظيت المدرسة بالسهم الأوفر في مسؤوليتها عن التطرف , فتدهور التعليم , وغياب القدوة الصالحة من المدرسة , وافتقار المعلم ذي الشخصية المتميزة جعلت المدرسة تفقد سيطرتها على الطلاب , وأهملت محاسبتهم عن الغياب , وانقطعت صلة المدرسة بالبيت , ادى الى انخفاض التحصيل العلمي , وفساد الأخلاق , والتسرب من المدرسة , مما يساعد على ايجاد فراغ رهيب في عقلية الشباب , ويسهل على وجود ارضية خصبة للإعتناق المبادئ المتطرفة .
كما ان لغياب الحوار المفتوح من قبل رجال الفكر الديني لكل الأفكار الواردة أو المتطرفة ومناقشة بعض الجوانب تؤدي الى التطرف في الرأي , هذا فضلاً عما تمارسه بعض وسائل الإعلام , وما ترسخه في نفوس الشباب من قيم غريبة عن المجتمع , لاسيما الأفلام والشرائط التي يساء اختيارها , وتقدم عن طريق السينما والتلفزيون .
هذا وان شيوع القهر والقمع من قبل الدولة يلعب دوراً هاماً في التطرف , فضلاً عن الفراغ السياسي لدى الشباب بالرغم من وجود التنظيمات الشبابية التي لم تؤدي دوراً ايجابياً في خدمته ثقافياً , وتدريبه سياسياً , وايجاد الصلة بينه وبين القادة في القطاعات المختلفة , كما انه قد يكون للفقر والبطالة اثراً في تنشيط السلوك المتطرف لدى الأفراد . ( )
ان من أهم الطرق العملية لمواجهة التطرف الديني هو بأن تكون هناك قنوات سياسية قانونية كمدارس للشباب تثقفهم على خدمة بلادهم , ومستوعبتاً الظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية , كما ينبغي ان يكون هناك منهج للثقافة الدينية , وان يكون تعليم الدين أساسياً في كل مراحل التعليم بالقدر الذي يعرف فيه أصول الدين , وما لا ينبغي ان يُجهل , ومن الضروري ان يواجه التطرف بالحوار الذي يجب ان تداوم عليه وسائل الإعلام المتنوعة مواجهة موضوعية تتعرف فيه على عناصره ووسائله لتقابه بما يصحح المفاهيم . ( )
المبحث السادس / العقلانية والأخلاقية في التدين :
يمكن أن نسجل اثنتي عشر سمة أو ميزة للدين العقلاني أو التعقل الديني , وهي بالتأكيد سمات عامة , وقد تم ادراجها على نحو منطقي متسلسل , فلا تتوقف احدى السمات على سمة لاحقة , بل ربما استندت الى سمة سابقة وتوالدت عنها , وهي كالآتي :
1- فلسفة الحياة : قبل كل شيء يبدو أن المتدين العقلاني يطالب الدين بفلسفة حياة شاملة لكل جوانب حياته ومستوعبة لكافة ثناياها .
2- طلب الحقيقة دون ادعاء احتكارها : ان المتدنيون ديانة عقلانية لا يعتبرون أنفسهم أصحاب حقيقة , وانما يفهمون تدينهم بمعنى انهم طلاب الحقيقة , فتدينهم لا يعني أنهم امتلكوا الحقيقة بل شرعوا في طلبها .
3- الممارسة النقدية : بعد طلب الحقيقة تنبثق الممارسة النقدية والفهم العميق لهذه الممارسة , فالتدين لا يعني التسليم الأعمى والإستغناء عن الأدلة والبراهين , ونبذ النقاش والتمحيص , والإنشداد الى طائفة من المعتقدات والعبادات والمناسك والقيم والأخلاقية , اذ ان الصواب هو حفظ السمة النقدية للتدين .
4- أخلاقية الكون : المتدين العقلاني هو الذي يرى الكون محكوماً بنظم أخلاقية في منتهى الدقة , ومعنى أن يرى الإنسان العالم ذا نظام أخلاقي , هو بعبارة مبسطة أن نعتقد بأن أي ذرة خير أو شرّ يستحيل أن تضيع سدى في هذا الوجود , أي ان الله سبحانه وتعالى نظمه بحيث يجازي على الخير والشّر , فإذا آمن شخص بهاتين القضيتين فهو مؤمن بسيادة نظام أخلاقي دقيق جداً على عالم الوجود .
5- ضبط النفس : للمتدين العقلاني على المستوى السلوكي هو اعتقاده بضرورة ضبط النفس أو الإنضباط الشخصي , وضبط النفس هو عدم الإستسلام للنزوات المؤقتة اذا كانت ضارة , فإذا لم يلحظ الإنسان سوى المنافع والمضار المؤقتة والمكاسب والخسائر المادية , فقد سدّ طريق التدين العقلاني بيديه .
6- سيادة الذات : من خصائص المتدين العقلاني خروجه التدريجي من سيادة الآخر الى سيادة الذات , فالدين في مراحله الأولى لا بد أن يكون تقليدياً تبعياً , فيتبع الإنسان تعاليم دينه بشكل تقليدي من دون أن يعرف الحكمة منها , لكنه في مراحل لاحقة سيحاول الحصول على عمق ديني وفحص وتمحيص لمبادئ عقيدته , تكشف له أسرار الدين وآثاره .
7- الطمأنينة بلا اطمئنان : ان المتدين العقلاني يعيش لوناً من اللايقين , بمعنى انه لا يجد برهاناً عقلياً واحداً على أي من التعاليم والقضايا الدينية أو المذهبية , فالقضايا الدينية رغم أنها لا تعارض العقل لكنها فرّارة من العقل أو مستعصية على العقل , فالطروحات الدينية وخلافاً لتصورات من يعتبرونها معارضة للعقل ليست معارضة للعقل , وخلافاً لآراء من يرونها مدعومة عقلياً ليست كذلك , بل هي مما لا يمكن القبض عليه بالعقل .
8- النزعة الإنسانية : التدين العقلاني يحتم على صاحبة خدمة أبناء جلدته لمحض اعتبارات انسانية , وبعيداً عن أية حواجز قومية أو وطنية أو دينية أو فئوية , فالمتدين العقلاني يرى أن الإنسان بما هو انسان جدير بالإحترام وبإسداء الخدمة والمساعدة .
9- مصارحة الذات : على المتدين العقلاني ان ينظر لنفسه في وقتها الحاضر , ويتقبل ذاته كما هي , وعليه الإعتراف بعدم قدرته على الفكاك من قبضة الماضي الحديدية , فما من بشر قادر على التنصل من ماضيه , وان لا يرى حسناته ومناقبه أشد أو أقل مما هي عليه فعلاً .
10- استيعاب هفوات الآخرين : المتدين العقلاني يحاول تفهم ضعف كل البشر , فمتى يستطيع الإنسان تفهم نواقص الآخرين يا ترى ؟ وبعبرة أخرى ما هي النظرة للآخرين التي تجعلنا نصبر على هفواتهم ونحتملها ؟ اننا نعجز عن استيعاب أخطاء غيرنا من الناس , حينما ننظر اليهم نهائية لا كعملية مؤقتة , فالنظر للآخر كصيرورة نقطة مهمة جداً لا بد من مراعاتها حتى مع الذات , وفيها لا يعتبر الفرد نفسه سوى فاعلية متواصلة تكتنف العديد من التغيرات والتحولات والتكامل , مما يعين على استيعاب الهفوات وعدم اليأس من تلافيها .
11- الثقة بالنفس : لا يتراجع المتدين المتعقل عن عقيدته ومبادئه حتى لو خالف فيها كل المجتمع , انه يقبض على ما يؤمن به , رغم كل ما يتعرض له من ضغوط نفسية ومادية يسلطها عليه المجتمع والبيئة المحيطة , وهو من الرسوخ في ايمانه والإقتناع بمعتقداته الى درجة الإعتصام بها , رغم المكوث وسط بيئة اجتماعية معرضة لها تماماً .
12- تحاشي الوثنية : ان المتدين العقلاني يتجنب كل مظاهر الوثنية والتصنيم , والمراد بالوثنية هنا تأليه أشياء ليست هي الله سبحانه وتعالى , وبتعبير فلسفي إطلاق الأمور النسبية , فإذا جعل الإنسان من النسبي مطلقاً فقد نحت منه صنماً يعبده . ((
وأخيراً وليس آخراً , فالتدين العقلاني الأخلاقي هو ما يمارسه المثقفون المتدينون عادة , وذلك بالإبتعاد عن الخرافة والأساطير , وجعل الدين مستساغاً من الناحية العقلية , وقد أهتم بهذا النمط من التدين رواد الإصلاح الحديث ومن على شاكلتهم الى يومنا هذا , وأحياناً يُعبر عنهم بالمعتزلة الجدد , لكونهم يقومون بتأويل كل ما لا يتلاءم مع التطلعات العقلية الحديثة أو المعاصرة , وهو يخالف الأنماط المعروضة السابقة ويقف على الضد بالخصوص من التدين الخرافي , إذ يجعل من الحاسة العقلية النقدية اساساً للتدين , فهو لا يتقبل كل ما ينسب الى الدين إلا بعد عرضه على هذه الحاسة , فوظيفة هذا النمط من التدين هي عقلنة الدين . ( )
المصادر
1- د. احمد ابو زيد , البناء الاجتماعي – الأنساق , الجزء الثاني , الطبعة الثالثة , , الهيئة المصرية العامة للكتاب , الاسكندرية , 1979.
2- ____________ , تايلور , مطبعة دار المعارف , القاهرة , 1957.
3- احمد الخشاب , الإجتماع الديني , مكتبة القاهرة الحديثة , الطبعة الثالثة , 1970.
4- ____________ , التفكير الإجتماعي , دار المعارف المصرية , 1970.
5- إكرام عدنني , س سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر , منتدى المعرف , الطبعة الأولى , بيروت , لبنان , 2013 , ص141.
6- انتوني غدنز , علم الإجتماع , ترجمة وتقديم : الدكتور فايز الصياغ , الطبعة الرابعة , المنظمة العربية للترجمة , بيروت , 2005, ص569.
7- البروفيسور ميشيل دينكن , معجم علم الاجتماع , ترجمة د. احسان محمد الحسن , دار الرشيد , بغداد , 1980 .
8- توماس هيلاند إريكسون . فين سيفرت نيلسن , تأريخ الأنثروبولوجيا , الطبعة الاولى , ترجمة وتقديم . عبده الريس , المركز القومي للترجمة , مصر ., القاهرة , 2014.
9- جان بوارييه , تأريخ العرقية , ترجمة نسيم نصر , الطبعة الأولى , لبنان , بيروت , 1974.
10- جان فرانسوا دورتيه : معجم العلوم الإنسانية , ترجمة جورج كتوره , ط1 , المؤسسة الجامعية للطباعة والنشر , بيروت , لبنان , 2009 .
11- د. حسين عبد الحميد احمد رشوان , الإرهاب والتطرف من منظور علم الإجتماع , مؤسسة شباب الجامعة , مصر , الاسكندرية , 2002.
12- دانيال هيرفيه ليجيه . جان بول وليم , سوسيولوجيا الدين , ترجمة درويش الحلوجي , المجلس الأعلى للثقافة , مصر , 2005.
13- روجيه باستيد , مبادئ علم الإجتماع الديني , ترجمة محمود قاسم , مكتبة الأنجلو المصرية , القاهرة , 1951 .
14- ريجر هوكاس , الدين ونشوء العلم الحديث , ترجمة زيد العامري الرفاعي , مكتبة مدبولي , مصر , 2008 .
15- زكريا ابراهيم , مشكلة الفلسفة , دار القلم , القاهرة , 1962.
16- د. سامية مصطفى الخشاب , دراسات في الإجتماع الديني , الطبعة الثانية , دار المعارف , مصر , القاهرة , 1988, شاكر مصطفى سليم , قاموس الأنثروبولوجيا , الكويت ,1981.
17- د. عاطف عطية , المجتمع الدين والتقاليد , الطبعة الاولى , منشورات جروس برس , طرابلس , لبنان , 1992.
18- د. عبد الجواد ياسين , الدين والتدين – التشريع والنص والإجتماع , التنوير للطباعة والنشر , لبنان , 2012 .
19- د. عبد الرحمن بدوي , موسوعة الفلسفة , الجزء الثاني , المؤسسة العربية للدراسات والنشر , الطبعة الأولى , 1984 .
20- عبد العزيز عزت , أهم نظم الجماعات المتأخرة , مطبعة دار التأليف , القاهرة , 1956.
21- د. عبد المجيد الرحيم , الأنثروبولوجيا , دار غريب للطباعة , مصر , القاهرة , 1979.
22- د. عبد علي سلمان المالكي , المدخل الى الأنثروبولوجيا الإجتماعية , الطبعة الاولى , مطبعة النجف الأشرف , العراق , 2007.
23- د. عبدالله الخريجي , علم الإجتماع الديني , الطبعة الأولى , رامتان , جدة , 1982 .
24- د. علي سامي النشار , نشأة الدين , دار نشر الثقافة , الإسكندرية , 1949.
25- د. قيس النوري , المدخل الى علم الإنسان , مطبعة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي , العراق , بغداد , 1982 .
26- د. قيس النوري : طبيعة المجتمع البشري في ضوء الانثروبولوجيا الاجتماعية , 1970.
27- كلود ريفيير , الأنثروبولوجيا الإجتماعية للأديان , ترجمة وتقديم , اسامة نبيل , الطبعة الاولى , المركز الثقافي للترجمة , مصر , القاهرة , 2015.
28- كوستاف لوبون , روح الجماعة , ترجمة احمد فتحي زغلول , المطبعة الرحمانية , القاهرة , 1909.
29- لوسي مير , مقدمة في الأنثروبولوجيا الإجتماعية , ترجمة د. شاكر مصطفى سليم , دار الشؤون الثقافية العامة , العراق , بغداد , 1981 .
30- د. محمد عاطف غيث : قاموس علم الاجتماع , دار المعرفة الجامعية , الإسكندرية , 2006 .
31- محمد منّان , الإقتصاد الإسلامي بين النظرية والتطبيق , الإنجلو المصرية , القاهرة , 1962.
32- د. مسعود حايفي , مدخل الى دراسة تأريخ الأديان , دار الأوائل للنشر والتوزيع , سوريا , دمشق , 2010.
33- د. مصطفى ملكيان , التدين العقلاني , ترجمة عبد الجبار الرفاعي , مركز دراسات فلسفة الدين , العراق , بغداد , 2005.
34- هوستن سميث , أديان العالم , ترجمة سعد رستم , دار الجسور الثقافية , سوريا , حلب , 2007.
35- د. يوسف شلحت , نحو نظرية جديدة في علم الإجتماع الديني , دار الفارابي , بيروت , لبنان , 2003.
مواضيع مماثلة
» الفلسفة اليونانية بين النشأة والتطور
» الفن التشكيلي المعاصر في العراق .. النشأة والتطور ..ح1
» علم الإجتماع الديني
» الحلقة الثالثة(علم الإجتماع والعلوم الإجتماعية)- مقدمة في علم الإجتماع
» ما هي الزيوت الأساسية
» الفن التشكيلي المعاصر في العراق .. النشأة والتطور ..ح1
» علم الإجتماع الديني
» الحلقة الثالثة(علم الإجتماع والعلوم الإجتماعية)- مقدمة في علم الإجتماع
» ما هي الزيوت الأساسية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس أكتوبر 03, 2024 3:58 pm من طرف الشيخ شوقي جبار البديري
» الشيخ المرحوم عبد الهادي
الخميس أكتوبر 03, 2024 3:53 pm من طرف الشيخ شوقي جبار البديري
» الشيخ شوقي البديري والاخ حمود كريم الركابي
الخميس أكتوبر 03, 2024 3:51 pm من طرف الشيخ شوقي جبار البديري
» الاستاذ المخرج عزيز خيون البديري وعمامه البدير
الخميس أكتوبر 03, 2024 3:48 pm من طرف الشيخ شوقي جبار البديري
» الشيخ صباح العوفي مع الشيخ عبد الامير التعيبان
الخميس أكتوبر 03, 2024 3:45 pm من طرف الشيخ شوقي جبار البديري
» الشيخ المرحوم محمد البريج
الخميس أكتوبر 03, 2024 3:41 pm من طرف الشيخ شوقي جبار البديري
» جواد البولاني
الإثنين سبتمبر 23, 2024 10:13 am من طرف الشيخ شوقي جبار البديري
» المرحوم السيد هاشم محمد طاهر العوادي
الإثنين سبتمبر 23, 2024 10:03 am من طرف الشيخ شوقي جبار البديري
» رموز البدير
الجمعة سبتمبر 20, 2024 8:41 pm من طرف الشيخ شوقي جبار البديري