علم الأنساب من الظنية إلى العلمية

علم الأنساب من الظنية إلى العلمية
المقدمة:- هذه المقالة محاولة متواضعة لرسم الخطوات المطلوبة للارتقاء بعلم الانساب العربي من طوق الظنية الى رحاب المنهجية العلمية، فالاتهامات لا تزال تحيط بهذا العلم بالرغم من قدمه وعراقته، بكونه علم ظني وليس قطعي، وترتب على ذلك عدم التعويل عليه في الدراسات والبحوث الرصينة، وهؤلاء يسوقون الدليل من انه لم يعتمد كباقي العلوم لحد الان في الكليات والجامعات، وعلى الاقل لدينا، وان اقصى ما وصل اليه هو في اعتماده كمصدر مساعد في التعريف بالسير والتراجم والرجال والقبائل، وهو بهذا الوصف علم مساعد، وهذه المرتبة ما كنا نتمناها له وهو العلم العريق الذي اختصت به هذه الامة من دون الامم الاخرى.

وهكذا نجد انفسنا ونحن نفقد بشكل تدريجي واحد من روافدنا التاريخية التي ورثناها عن الاباء والاجداد جيل بعد جيل دون انقطاع، ونعتقد ان اللوم في هذا الجانب نحن من يتحمله في هذه المرحلة على الاقل، والجميع يفكر وخاصة اهل الاختصاص بمعالجات جدية لهذه القضية، الا ان الجميع يعلم مسبقا ان هناك تعقيدات كثيرة تقف حائلا امام اي خطوة، والسبب وراء هذا التعقيد كون الانساب تمس شرائح اجتماعية واسعة من بيوتات وقبائل وعشائر، في اصولها وانتمائاتها، ومن هنا تبدا الحساسية في المعالجة، والتي نعتقد اذا ما اقدم احد على المعالجة يجب ان تكون بعملية جراحية دقيقة وبمشرط الاقناع، وهناك جانب اخر في المشكلة وهم النسابة انفسهم، كونهم توارثوا قواعد لا يحاولون الخروج عليها، وهذه القواعد عينها هي التي وضعت هذا العلم بهذه المرتبة المتدنية وفي قالب الجمود الحالي، لذا فان كل محاولة من طرف مجدد ومبدع يرنو الى التغيير من خلال كسر هذه القوالب، سيفسرها الاخرون هدم لسلالمهم التي ارتقوا بها الى مكانتهم الحالية، ولربما ستمتد المعارضة ضد التجديد كما نعتقد الى الطرف المستفيد، فالكثير من القبائل والبيوتات لديها اوراق جرى تصديقها وتوثيقها بالقواعد القديمة، وبتسلسلات تعتمد على نظام العامود الاصم، وان اي تعاطي جديد يعني المساس بصحة هذه الوثائق، ونخلص من كل هذا الى ان المشكلة في المعالجة كبيرة ومركبة وصعبة.

بداية علم الانساب

اشتهر العرب كما هو معلوم للجميع من بين الامم الاخرى باهتمامهم الكبير بانسابهم واحسابهم، وهناك مئات القصص تحكي عن هذا الاهتمام ومن بينها ما ذكرته المصادر من ان ملك الحيرة النعمان بن المنذر سال بماذا تشتهر العرب؟ بعد ان تفاخرت الامم الاخرى بما لديها من صناعات وفلسفات، اجاب بانهم يحفظون انسابهم واحسابهم، ويتكرر هذا الحال في مدائح الشعر الجاهلي بالقبائل ومناقبها، حتى قيل ان القبائل العربية عندما يولد فيها شاعر يفرحون فرحا كبيرا لانه سيذكر انسابهم ويشهر مناقبهم، وهكذا الحال حتى مع الدعوة الاسلامية فالاخبار التي وصلتنا تشير الى ان الرسول الكريم(صلى الله عليه وسلم) استخدم علم النسب اثناء دعوته للاسلام ولعل قصة دغفل النسابة تقف شاهدا على ذلك، وبهذه العجالة نصل الى ان علم النسب عند العرب قديم وعريق، وان هذا التراكم التاريخي في الانساب العربية اوجد له قاعدة عريضة وراسخة في قلوب وعقول هذه الامة.

موارده

ذكرنا قبل قليل الشعر الجاهلي والحقيقة ان الشعر هو ديوان العرب، لذا كان يعد موردا مهما من موارد النسابة في معرفة القبائل وانسابهم ومثال ذلك ان الاختلاف في اصل قبيلة قضاعة قد حسم في نسبتها الى معد استنادا الى بيت شعر قاله احد شعراء قضاعة من بني عذرة وهم من هذه القبيلة قال:

واي معد كان فئ رماحهم

كما قد افأنا والمفاخر منصف

ومن بقايا هذا المنهج القديم اليوم عندنا ولازال العمل قائم به الاراجيز الشعرية في الانساب فانها تعتمد الى حد ما في تسلسل عامود النسب، وبعد ان شرق فجر الاسلام على هذه الامة وولادة علوم رصينة متينة مثل الفقه واصوله وعلوم القران والحديث الشريف وعلم الكلام واللغة وغيرها، فالقت هذه العلوم بظلالها المنهجية على علم النسب وتاثر بها كثيرا، واول ما يطالعنا كتاب السيرة النبوية لابن اسحاق (توفي 150هـ) فيبدا كتابه بنسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا الحال مع ابن النديم (توفي 380 هـ) في كتابه الفهرست والذي ذكر فيه كتب الانساب في المقالة الثالثة من الفن الاول من ضمن فنون المسلمين وعلوم العرب، ودخل على خط النسب المؤرخون فهذا الطبري (توفي 310 *) في كتابه تاريخ الامم والملوك فذكر نسب الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم وصعد به الى عدنان، وكذا فعل المؤرخ ابن الاثير في كتابه الكامل في التاريخ، وما يهمنا هنا هو دخول منهجية جديدة على موارد علم النسب لم يكن النسابة قبل هذا التاريخ يعرفونها، وهو علم اسناد الرواية والنقل، فالخبر يبدا ب (حدثني فلان) او(حدثنا فلان)، فصار الاسناد عالي والنقل دقيق ولا تدخله الشبهة في السرد، وهذه الاستعارة المنهجية هي بمثابة نقلة علمية غير مسبوقة باتجاه ترصين علم الانساب، وكادت ان تاخذ به الى مرتبة العلوم القطعية لا الظنية،ولان علم الانساب متعلق بالمجتمع نفسه فهو مراة عاكسة لحال الامة، فعندما شهدت الامة تقدما علميا هو الاخر شهد رقيا،والعكس صحيح، فبعد ان تدهور حال الامة على اثر الغزو المغولي سنة 656هـ، تدهور حال هذا العلم وتراجع كثيرا، وبدا يدور في دائرة مغلقة من اسماء مجردة دون سند او رواية، واستمر هذا التدهور الى يوم قريب.

حل مشكلات هذا العلم

كما ظهر لنا واضحا فالمشكلة الرئيسة تكمن في موارد ومناهج علم الانساب،فلا زال البعض يعتقد ان الانساب هي في ذكر اسماء مجردة، ورسم عامود اصم لا ينطق عن شيئ، والاعمدة النسبية هذه الكثير منها ليس فيه اي دلالة ولا تستند الى مدلول تاريخي او واقعة او حدث، وهذا التبسيط المسطح للانساب فتح الباب لكل من هب ودب ليركب مطيته، معتقدا انه صار نسابة بمجرد حفظه لعدد من الانساب، وسلخ علم النسب من التاريخ والذي هو سجل للاحداث ولحركة المجتمع، ولا نعلم تماما كيف يكتب الانساب رجل يجهل التاريخ، والنسب نفسه تاريخ مجتمع او تجمع، فالحروب والاوبئة (الطواعين) والصراعات على السلطة كلها مؤثرات قوية في اي مجتمع ومن ضمنها القبائل والعشائر، وبها يمكن ان يستدل النسابة بتواريخ محددة ما حدث في هذه المدينة وذلك الموضع وبذلك يهتدي الى (منتقلة القبيلة) وسبب هجرتها وما اصاب رجالها، فالشرط الاول الاساس لترصين هذا العلم هو معرفة التواريخ المحلية والتاريخ العام للمنطقة. اما الشرط الثاني فهو اجادة النسابة ل (علم تحقيق المخطوطات) لان الكثير من الرقاع والطوامير والوثائق التي تحمل انساب القبائل هي قديمة، وعلم تحقيق المخطوطات يميز كل مخطوطة من حيث ورقها ومدادها وخطها واسماء الرجال فيها، فيعرف عندئذ صحة هذه الوثائق من عدمه ويستطيع تقدير زمان صدورها او كتابتها وصحة الاسماء الواردة فيها.

والشرط الثالث هو معالجة (الانساب الشفوية) التي يدعيها بيت من البيوت او يعتمدها (نسابة محلي) من احدى القبائل، وعندما يقوم النسابة الرحالة باخذ هذه الانساب من هؤلاء وبحسب ادعائهم ويثبتها من هذه الرواية الشفوية دون تحقيق او وثيقة او بينة دامغة وبذلك تنشا مشكلة كبرى من جراء ذلك.

والشرط الرابع وهو (التواطئ على الخطا) فكثير من الانساب وثقت في ظروف خاصة ورافقت هذه الظروف حالات من الضعف والخطأ، وياتي النسابة التالي وياخذ من هذا التوثيق السابق فيحدث التواطئ على الخطأ بينما النسابة الثبت المحقق يسعى بكل الطرق الى تحقيق كل المعلومات وان كانت سابقة عليه بالزمن ليصل الى الحقيقة ويرتقة لعلمه الى منهجية رصينة.

المنهج العلمي والمقترحات

نوهنا في البداية من ان التجديد في علم الانساب مهمة صعبة تحتاج الى الصبر والاقناع، وان الطريق الوحيد المتبقي امامنا من اجل الارتقاء بهذا العلم هو من خلال ترصينه بمنهج يعتد به وطرحه مجددا على انه علم يمكن التعويل عليه، ولان العلوم لا تولد هكذا صدفة بل بالتعمد والمثابرة والجدية، لذا نرى ان الاستعارة العلمية اليوم متاحة لنا باستعارة منهج معترف به ومعتمد، كالمنهجية التاريخية بكافة تفرعاتها البحثية والنقدية والتحليلية، خاصة وان الانساب جل اهتمامها ينصب على الاصول اي على الماضي، ومن هنا تنشأ الصلة بين الانساب والتاريخ، باعتباره اقرب العلوم اليه، ثم ياتي علم الاجتماع كون الانساب اساسا تبحث في اجتماع الناس، ولان علم الاجتماع يهتم بهذا الجانب كذلك،من خلال دراسته للافراد والاسر والجماعات، ومن هنا ينشأ التعلق بين علم الاجتماع وعلم الانساب ويدخل في مضماره، وفي هذا الباب بالذات نجد ان علم الاجتماع التاريخي الذي بدا به ابن خلدون في مقدمته المشهورة، هو الاقرب في الصلة والموضوعات والمنهج اليه، عندئذ يمكن حصر موضوعات علم الانساب في الاصول والتطورات الاجتماعية وتواريخ الاحداث والوقائع، فيخرج من نطاق الاسماء البكماء والاعمدة الصماء ويتحول الى علم عريض يعول عليه لدى الباحثين والدارسين، وعليه نقترح كبداية لانطلاقة فتح جديد لهذا العلم العريق من خلال الخطوات التالية:-

1- قيام كلية متخصصة بتدريس علم الانساب بمنهجية علمية جديدة ورصينة، تكون من ركائزها سبك الانساب بالتاريخ والاجتماع في وحدة واحدة، وتوسعة قاعدة بحوث هذا العلم الى الجوانب المتعلقة به والتي ذكرناها انفا.

2- قيام اتحاد للنسابة معترف به، يتولى توصيف النسابة المجازين والمؤهلين في التعاطي مع الانساب ، وتاهيل وتدريب الراغبين في البحث به او مزاولته، وتطبق شروط الاجازة العلمية في العمل في هذا المضمار

والحمد لله رب العالمين.

المصادر والمراجع:

1- الطبري – تاريخ الامم والملوك :ج 2 – ص 239 وما بعدها.

2- ابن الاثير – الكامل في التاريخ :- ج 2 ص 7 وما بعدها.

3- ابن النديم – الفهرست :- ص 142.

4- المصعب الزبيري – نسب قريش :- ص 5.

5- ميعاد الكيلاني – تاريخ النقباء :- ص 7 .