الفكر الجغرافي في الحضارة العراقية القديمة

تعد الحضارة السومرية من أول الحضارات البشرية الأصيلة وأساسا لجميع حضارات العراق القديم فيما بعد ولحضارات أخرى نشأت في أنحاء الشرق الأدنى والوطن العربي.
وقد نشأت الأصول الأولى للحضارة السومرية في وادي الرافدين والتي تعود إلى مراحل سبقت الحضارة السومرية .والتي يطلق عليها عاده’ حضارة ما قبل السلالات أو فجر السلالات.
ومن ذلك جاءت أصالة الحضارة العراقية أي إنها تمت في ارض العراق منذ بدايتها الأولى حتى وصلت مراحل تطورها وتقدمها ولم تقتبس شيئا من أسسها من حضارات أخرى لأنها أقدم الحضارات.
وقد اقتبست أسسها من البيئة العراقية بعد خضوعها لتجربة الإنسان وممارساته بالقدر الذي جعل تلك الأسس حقائق ثابتة تحولت إلى مبادئ أساسيه للحضارات التي تلتها او..التي اشتقت عنها والتي شملت معظم الجزء الشرقي من الوطن العربي بما فيه شبه الجزيرة العربية وأطرافها وبلاد الشام.
أما صانعو الحضارة العراقية القديمة.فهم عراقيون بصنعهم وإنتاجهم وهم نتاج لصنع البيئة العراقيه التي جعلت المجموعات البشرية تنصهر في بودقه هذه البيئه فيخرج منها معدن عراقي اصيل يختلف عن الخامات التي وضعت أول الأمر هذه الملاحظة نريد بها بيان الحقيقه أمام من أراد أن يقلل من دور العراق في صنع الحضاره الاصيله.مشيرا إلى أن الاقوام الاولى التي جاءت إلى العراق كانت تحمل معها اسس الحضارة.وأحسن ما يمكن ان نرد به.هو اذا كانت هذه الاسس الحضارية قد وجدت في مناطق أخرى فلماذا لم تنضج في تلك المناطق قبل وصولها الى العراق .فالمعروف ان مقومات الأساس تنضج ثم تنتقل الى مناطق اخرى .
ان الإشارة التى أوردناها حول موضوع اصل السومريين صانعي الحضارة العراقية الأصيلة بسبب الفرضيات والآراء التي أثارها بعض الباحثين حول اصل السومريين والتي حسمها يحتمل ان يكون ساحل شبه جزيرة العرب الشرقي( دلمون) البحرين و(مجان) عمان كونها الأرض التي نزح منها السومريين.
والرأي السابق تؤيد الظروف الجغرافية الطبيعية . فمن الجانب الطبيعي نرى ان شبه جزيرة العرب تكون امتدادا طبيعيا لجنوب العراق وغربه وهي المنطقة التي استقر بها السومريين .فالحواجز الطبيعية الفاصلة بينهما مفقودة , إضافة الى التشابه الكبير في طبيعة المناخ السائد في المنطقتين.وإضافة للجوانب الطبيعية.تأتي الجوانب التاريخية فلا توجد فتره تاريخيه انفصلت فيها شبه الجزيرة العرب عن العراق انفصالا حضاريا او ثقافيا او اقتصاديا.
ومهما كان اصل السومريين والعهد الذي نزحو فيه فان مانسميه بالحضارة السومرية قد نشأ في العراق قبل غيره من مناطق العالم . فمنذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد نمت في جنوب العراق مبادئ وأسس الحضارة الاصيله.والتي لايوازيها سوى حضارة وادي النيل التي عاصرته وأثرت فيها من حيث تقويم الاسس الحضارية المتشابهة. من حيث طبيعة البيئه التي انعكست آثارها على اسس الحضاره فكل من الحضارتين حضارة نهريه وسهلية

- كان في البدء عنصر الماء أزليا والها في الوقت نفسه وتولد من عنصر الماء عنصر آخر هو عنصر الارض وكانت مع السماء متحدتين وكانت الارض والسماء الهين كذلك.
2- تولد من السماء والأرض المتحدتين عنصر غازي هو الهواء المتمدد الذي فصل بتمدده السماء عن الارض وجسموا الهواء وجعلوه ألها هو الإله ((انليل)) وقد تولد من الهواء القمر ومن القمر ولدت الشمس.وجسموا كلا من القمر والشمس وعدوهما الهين.
3- بعد انفصال الارض عن السماء نشأت الحياة الاخرى من نبات وحيوان وإنسان على الارض , وقد تصوروا ان اصل الحياة والأشياء قد جاء من اتحاد الهواء والتراب ((الارض))والماء بمساعدة الشمس.وهذه هي نظريه العناصر الأربعة.
ومن المعارف الجغرافيه التي اهتمت بها الحضارة العراقية القديمة رسم الخرائط فنتيجة لتقدم الري المحكم والذي يعود تاريخه الى 40000 سنة ق.م(20)وما ترتب عليه من تطوير الزراعة.والاهتمام بحساب مساحة الاراضي الزراعية برزت الحاجة الى ايجاد وسائل لضبط تلك الامور فبرز دور الخارطة.وكانت الخرائط العراقية المختصة بذلك من اقدم الخرائط في العالم.والتي اهتمت بامور كثيره منها:
خرائط الملكيه الزراعيه وخرائط التضاريس المدن والعالم وهنالك امثله كثيره لهذه الخرائط منها خارطة مدينة اومه(تل جوخه) والخاصة بتحديد مساحة الحقول الزراعية وخارطة مدينة نفر السومرية وتعد من اقدم الخرائط المدن المعروفة قديما والتي يعود تاريخها الى الالف الثاني ق.م وكانت على درجة كبيرة من الدقة.بحيث ساعدت النقبين الذين وجدوها في تنقيبهم في امواضع المهمة من المدينة.ولم تقتصر الخارطة في حضارة العراق القديمة على ماذكرناه سابقا.بل كانت لديهم خرائط من نوع خاص وكان الغرض الاساسي منها تصوير العمليات الحربية ورسم مواقعها.
وفي مجال الافق الجغرافي.ومعرفة الارض.فقد شمل الافق الجغرافي في حضارة العراق القديمة.مناطق واسعة من الشرق عن طريق التجارة والفتوح الخارجية والاسفار فقد عرفوا معظم اجزاء الجزيرة لعربية وخصاصة الجزاء الشرقية.ومنها البحرين والتي سميت بدلمون في كتابات السومريين وعمان(مجان)وسواحل البحر الاحمر.ومصر وبلاد الشام والاجزاء الجنوبية من بلاد الاناضول وبلاد عيلام والاجزاء الشمالية الغربية من بلاد فارس.ومعظم السواحل الشرقيه للبحر المتوسط.
وفي مجال معرفة الاتجاة فقد قسموا الارض الى اربع جهات اساسية.وعرفوا البلادىالتي تقابل هذه الجهات.
وقد برز اهتمام الحضارة العراقية بالمعرفة الجغرافية من خلال الجداول التي الفت في ذلك الوقت والمتضمنة اسماء البلدان والمدن والانهار.وخاصة في المرحلة التي مثلث العصور الاشورية والعصر البابلي الاخير.
ويمكن عد تلك الجداول الاساس التي اعتمد عليه المؤلفون المحدثون في وضع مثل هذه الجداول في الطالس الحديثة وخاصة الغربية منها.والتي تعرف بالاندكس والتي تعني بالغه العربية فهرس الاسماء.
وكان لتقدم العلوم الاخرى كالحساب والهندسة والجبر اثره على علم الجغرافية فقد استخدمت المعرفة الجغرافية المقاييس والمكاييل لحساب المساحات وحساب الاوزان منذ العصر الاكدي.
الفلك:-
يجمع الباحثون في علم الفلك على ان الحضارة العراقية كانت القاعدة الاولى التي انطلقت منها المعرفة الفلكية.فعند بداية ظهور الحضارة العراقية كان لعلم الفلك دور السيادة في بنائها.وقد نضجت المعرفة الفلكية ووصلت درجة متقدمة في العصر البابلي
فقد اشتهر الفلك البابلي شهرة عظيمة بين الاغريق حتى ان اسماء من مشاهر الفلكين البابليين قد عرفوها وترجموها فمن ذلك الفلكي البابلي ((نبوريانوس))و((كيدينو))
وقد اهتم سكان العراق منذ فجر الحضارة واعتنوا بملاحظة الاجرام الماوية بدرجة يمكن معها ان ترى بالعين المجردة.اضافة الى ان سكان العراق وبسبب الظروف الدينية كانت نظرتهم الى السماء نظرة اجلال وتقدير.فاكثر الهتهم مقرها السماء.فالاله آنو تمثله السماء والاله انليل يمثله الهواء والجو والظواهر المتعلقه بهما.حتى ان اسمه يعني ((السيد الهواء))او
((الرب الهواء)) وقد فرض شريعته على جميع سكان العالم وله شبكه مقدسه يحبس فيها كل من يحلف زورا او يحنث يقسمه.
والاله ((سيين))ويمثله القمر.وسمى عرب الجنوب الاله القمر ((ود))وسماه الاراميون ((شهر)).وقد خص اله القمر مدينة اور منذ اقدم الازمان وشيد له فيها معبد شهير.
واله الشمس ((شمش))ويلي الة القمر في المنزلة.وولدت الشمس من القمر بحسب القصائد البابليه .والهواء من الزهرة وسموها ((عشتار)) وقد احتلت مكانا بارزا في ديانة سكان العراق الاقدمين وانتشرت عبادتها الى جميع انحاء الشرق الادنى ومناطق اخرى في العلم وعبدها الاغريق تحت اسم ((افروديت)) والرومان تحت اسم ((فينوس))وعبدوا الهة اخرى تمثل الجو والمناخ والامطار والرعد.
اضافة الى ذلك فانهم عبدوا النجوم .وهذه الالة التي اشرنا اليها سابقا كان مقرها السماء.
الامر الذي دعا سكان العراق الى التعلق بالسماء وما يدور فيها وهذه البداية الاساسية لعلم الفلك التي يتناول في اساسه طبيعة وحركة الاجراء السماوية.
ومن الامور الاجتماعية التي يمكن الاشارة اليها.والتي تعتبر من الامور التي جلبت انتباه سكان العراق لمراقبة السماء هو ان سكان العراق منذ القدم وبسبب طبيعة المناخ وحرارته وخاصة المنطقة التي كانت المهد الاول للحضارة.وكانو يلتحقون السماء اي انهم يتخذون من سطوح المباني وخاصة المرتفعة منها مكانا لنومهم ليلا.وهذا الامر يحد ذاته يجلب انتباه الانسان لمراقبة السماء والتمتع بجمال النوم.
حتى ان هذا الامر انعكس على طبيعة الادب العراقي القديم والذي برزت فيه السماء والنجوم عناصر للقصيدة العراقية القديمة.
ومن الجوانب العلمية التي خدمت العلم تقدم العلوم الاخرى والتي استخدمت لتطوير المعارف الفلكية فتقدم العلوم الرياضية والهندسية.خدم علم الفلك خدمة كبيرة.
فقد بدأت كتابة الارقام والحساب بالارقام في حضارة وادي الرافدين منذ ازمان بعيدة وفي حدود 3500 ق.م
ومن الامور التي ساعدت على تقدم الرياضيات في حضارتي العراق ومصر الحاجة الى تقويم لضبط مواعيد الزراعة.
كما ان تطور العلوم الهندسية وخاصة ما يتعلق منها بحساب المثلثات قد خدم الفلك خدمة كبيرة.حيث قسلت امسافات وعرفت الحجوم والابعاد.
وقد تناولت الدراسات الفلكيه جوانب متعددة ارتبطت بحياتهم اليومية,وفي مقدمة ذلك حساب الوقت الذي كان هدفا من اهداف الحضارات القديمة جميعا سعت لتحقيقة.منذ بدايتها الاولى.
وبذلك قد قسم البابليون اليوم الفلكي ((الليل والنهار))الى12قسما وكل قسم يساوي ساعة مضاعفة من ساعتنا وقسموا الساعة الى 30جزء .كل جزء يساوي اربع دقائق من دقائقنا.وقد جاء هذا التقسيم منذ السلاله الاكديهة اي في منتصف الالف الثالث قبل الميلاد.
وكذلك قسموا دائرة السماء الى12 ساعة من ساعاتهم و360 وقسموا دائرة البروج الى اثني عشر قسما بواسطة النجوم الثوابت وسموا لكل قسم بنجم من تلك النجوم.وبموجب هذا النظام قسم البابليون السنة الى اثني عشر قسما يقابل كل قسم منها شهرا وتكون الشمس في برج ذلك الشهر ثم قسموا كل برج الى30 درجةوهي مساوية لعدد ايام الشهر.وقد استخدم البابليون في هذا المجال اقصى ما توصلت ليه الرياضيات البابلية من تطور حتى انهم استعملوا المتواليات الحسابية المتصاعدة لمعرفة اوقات طلوع القمر وظهور بقية النجوم.
وقد استخدم البابليون الاسطرلاب وحسبو ابعاد النجوم بالدرجات.وعندما ظهر فن الاسطرلاب عند البابليين منذ الزمن البابلي القديم بدأ العهد العلمي في الفلك البابلي وقد استخدموا الساعات الشمسية والساعات المائية والرملية لحساب الوقت.
اما ما يتعلق بظاهرة الخسوف والكسوف .فقد كانت من الظاهر التي ترصد وتتابع في جميع مناطق حضارة وادي الرافدين سواء كان ذلك في العصر البابلي ام الاشوري.
ومن الجدير بالذكر ان نورد بعض الهوامش والتعليقات التي اوردها المرحوم الدكتور ابراهيم شوكت في بحثه عن الاسطرلاب والتي نشرت في المجلد التاسع عشر من مجلة المجع لعلمي العراقي والتي من خلالها نستشهد بآراء بعض المؤلفين المنصفين بحق الحضارة العراقية.
(يقول الاستاذ دونالد فكتري في كتابه (اساطير بابل وآشور)ص.322.321.320
(ان التقدم الفجائي الذي حدث على يد الفلكيين في وادي مابين النهرين عندما كان آشور في اوج عظمتها كان لوجود علماء وبحاثه وطنيين هم بمثابة نيوتن وهرشل في العصر الحديث فلقد درسو كل المعلومات التي تجمعت لديهم وهي حصيلة اجيال من الذين سجلو دفاترهم حركات الكواكب والسيارات

تطور المعرفة الجغرافية:-
لقد اشرنا سابقا الى ان الأفاق المبكرة للفكر الجغرافي قد اتخذت منه البداية اتجاهين رئيسيين , الاتجاه الأول ارتبط بالأرض والاتجاه الثاني ظل شاخصا نحو السماء.
ويمكن ان نسمي الاتجاه الأول على ضوء المبادئ الاولى للفكر الجغرافي بالجغرافية والاتجاه الثاني بالفلك والتنجيم وفى ضوء ذلك ستكون متابعتنا لتطور الفكر الجغرافي متابعة الاتجاهين وما يتضمنان من أفكار فرعيه
ففي محال الجغرافية تركز اهتمام العراقيين في أمور عديدة منها ما ورد ضمن الاسس المشتركة للحضارات القديمة ومنها ما اختصت به الحضاره العراقيه. ففي مجال الاهتمام بموضوع خلق الأرض والسماء فأن العراقيين القدماء ومنذ العصر السومري تصوروا الأرض وما فيها صوره او نسخه لما في السماء فالفرات ودجله وجميع أراضي البلدان وحتى المعابد صوره ثانيه لأصول موجودة في السماء.
كما تصوروا الأرض بهيئة نصف كرة مقلوبة او قبة طافية في المحيط وتعلو الأرض والسماء وهي بسبع طبقات وهي كذلك بهيئة القبة وتقوم السماء كالبيت فوق أساس . وقسموا قشرة الأرض الى ثلاث طبقات.الطبقة العليا وهي الظاهرة التي يسكن فيها البشر. والطبقة الوسطى موضع المياه والطبقة السفلى فيها موضع الآلهة و أرواح الموتى .
اما موضوع خلق الأرض و ما يحيط بها فنشير الى مختصر قصة الخليقة التي تمثل الفكر الأدبي الذي وصلنا من تاريخ العراق القديم والتي أشار إليها الأستاذ طه باقر في كتابه (مقدمه في تاريخ الحضارات القديمة)وملخصها ما يأتي:-
(يستدل من قصه الخليقة البابلية ان المياه الاولى كانت المادة الاولى التي ولدت منها جميع الأشياء.وكانت هذه المياه الاولى مضطربة مشوشة ومؤلفه من عنصرين من الماء مختلطين .الماء العذب(وهو العنصر المذكر)والماء المالح(العنصر المؤنث).وقد جسم البابليون هذين العنصرين من الماء وعدوهما إلها, وهما: ((ابسو))و((تيامه))ومن هذين الإلهين الأبوين ولدت جميع الآلهة وقد فصل الآله ((مردوخ))جسم ((تيامه))وكون من نصفه الأول السماء ومن نصفه الثاني الارض, ثم خلق الكواكب والنجوم, و بالاشتراك مع أبيه ((أيا)) خلق الإنسان من دم احد الإلهة . وفي روايات اخرى عن الخليقة ان الإنسان خلق من دم أله ومن تراب الارض, والظاهر ان خلق الانسان قد جاء بعد خلق الكون والحيوان والنبات . ثم خلقت الاشياء الاخرى الخاصة بالعمران البشري من فلاحة وزراعة ومعدن وبناء).
وقد احتوت الآداب السومرية العديد من الآراء حول أصل الوجود.وجاءت هذه الآراء بشكل أساطير دينيه ولكن اذا أخرجناها من غلافها الأسطوري لم تكن تلك الآراء بدائيه بل انها معادلات فلسفيه تخص اصل الكون واصل الوجود وهذه الآراء سبقت ما جاء به اليونانيون متمثلا بمبدأ العناصر الأربعة الأولية.
وبجانب قصه الخليقة التي اشرنا أليها بإيجاز. وخاصة ما جاءت به الأساطير الدينية السومرية يمكن إبراز بعض الجوانب الآتية التي تمثل ملخصا لأرائهم في الكون :.