الكرم العراقي ميزةٌ متأصّلةٌ لا صفة مكتسبة

الكرم العراقي ميزةٌ متأصّلةٌ لا صفة مكتسبة
بقلم| زينب زكي غائب
الكرم من أجمل مكارم الأخلاق وخامسها من بعد الدين والعقل والعلم والحلم
والكرم لا يعني العطاء فقط، بل هو ميزة ونوع خاص من الفطرة المتأصلة الغير مكتسبة. وعند الحديث عن الكرم العراقي لا بدَّ أن نوضح معنى الكرم أولاً، ولتوضيح ذلك نضرب مثلاً: بستانين أحدهما فيه فاكهة من برتقال ورمان، والآخر فيه نخلٌ باسقات، بستان الفاكهة يحتاج إلى ماء غزير وسماد وفير وعمل وجهدٍ ليأتي أُكُله من ثمرٍ وفير وطيب، لكنه يبقى في تصنيف الفاكهة، أمّا النخيل، فإنه أكرم من البرتقال أو الرمان. لأن النخلة تأتي بالتمر الذي يقتات منه زارعها كغذاء مشبع وعسل التمر الذي يبيعه فينال منه ما ينال وسعف النخيل الذي يصنع منه ما يصنع، فضلا عن الحطب الذي يناله من تكريبها، وكذلك الليف والجمّار والطلع والكثير... لذلك فهو أكرم من بقية الأشجار، وأريد أن أشير إلى أنَّ النخيل بمجمله أكرم المزروعات، ليس بسبب العطاء فقط فالبساتين معطاءة أيضا، لكنها لا تصل لعطاء النخيل مهما أثمرت لأن النخيل قد تميز بطبع أصله ونوعه. والكرم لا يتميز بكميّة العطاء بل بنوعه، وكذلك الكرم العراقي.
فلو فرضنا أنَّ رجلاً غنيًا يملك ألف دينار وفقير لا يملك سوى مائة دينار فتبرَّعَ كل منهما بخمسين دينارا، فبذلك يكون الرجل الغني قد أعطى 20% مما يملك أمّا الفقير فقد بذل نصف أمواله؛ ولذلك يمكن وصف الفقير بأنه رجلٌ ذو جود وكرم، وكذلك الرجل الغني إلا أنه لن يصل لما وصل إليه الفقير من عزَّةٍ وجود وسخاء؛ وهذا تحديدًا ما يحدث في وطني العراق؛ وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ربّ درهم سبق ألف درهم".
وكذلك الأم الحنون حينما يريد طفلها طعاما فإنها بدون تفكير تقدم طبقها لولدها بحبٍّ وحنان مصحوب ببسمة لطيفة على وجنتيها. والكرم العراقي يتميز بالعطاء والكيفية والطريقة والطبع؛ فالكرم ميزة يتميز بها هذا الشعب السخي أينما ذهب ففقيرهم غنيٌ بكرمه كما غنيهم؛ فأينما حلّوا وارتحلوا أو حتى تغرّبوا، فأبناء العراق من جنوبه مرورا بوسطه إلى شماله وشرقه وغربه هم أهل الكرم والجود، وشواهد ذلك كثيرة فالأنبار على سبيل المثال لا الحصر، لا وجود للفنادق فيها؛ لأنَّ أهلها يفتحون بيوتهم ومضايفهم لأي زائر كان بغض النظر عن أصله وعرقه أو دينه أو لونه أو غناه أو فقره، فالتقاليد العشائرية هي الحاكمة في هذا الإطار؛ لذا فإن تلك العشائر تعتبر الفنادق أمراً مخجلا ومناقضا لمبدأ الضيافة مع أن مساحة الأنبار تمثل ثلث مساحة العراق، وعندما يباشر أهالي الأنبار وغيرهم من جميع المحافظات ببناء منازلهم، تكون المساحة الأكبر مخصصة للديوانية (قاعة الاستقبال)، حتى لو كان ذلك على حساب باقي غرف المنزل. وهذه الظاهرة يتميز بها العراقيون في الفلوجة والبصرة والديوانية والنجف وكربلاء وديالى وأربيل والسليمانية والناصرية وكل محافظات العراق، وعن كرمهم (فحدِّث ولا حرج) الذين إن دخلت إليهم زائراً سيرفضون رحيلك دونما أن تمكث عندهم، ومن المعيب على الزائر رفض دعوة المأدبة. أما بالنسبة لأيام شهر محرم و صفر في محافظتي النجف وكربلاء فالحديث يطول ولا يُحصَر فأفواج زوار كربلاء يفرش البساط لهم سنويا بمائدة ومضايف مفتوحة على طول المسافة الواصلة بين محافظتي النجف وكربلاء والتي تبلغ أكثر من 80 كم ولمدة أربعين يوماً.
وللتأكيد فإنَّ الكرم العراقي لا يتأطَّر ولا يمكن حصره بالمضيف أو الموائد فنرى الكرم لديهم بحسن خلقهم وكظم غيظهم وغض طرفهم وطول صبرهم وإنَّ هذه المكارم جزءٌ لا يتجزأ من ميزة الكرم لديهم، الذي هو ميزة متأصِّلة بهم وليست صفة مكتسبة أو أنهم تعلموها من غيرهم حيث يمكن تمييز العراقيين حتى المغتربين منهم بسهولة من خلال كرمهم فالكرم العراقي كالنخلة التي ذكرتها آنفًا فهو مميز ليس كأي دولة من الدول وكالأم الحنون ليست كأي امرأة.